كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، التي ألقاها أمام اللجنة الوزارية العربية الإسلامية، تأتي في لحظة سياسية حساسة، حيث تُعيد القيادة الفلسطينية التأكيد على موقفها السياسي والثوابت الوطنية، في ظل واقع ميداني كارثي في قطاع غزة، وتصاعد غير مسبوق في مستوى العنف الإسرائيلي، ومحاولات متسارعة لإعادة رسم خريطة الحكم والسيطرة داخل الأراضي الفلسطينية.
حصار الاحتلال لن يمنع التنسيق العربي
ما تضمنته كلمة الرئيس من رسائل، يحمل دلالات متعددة على المستويين السياسي والرمزي. بداية، فإن الإصرار على عقد الاجتماع مع اللجنة الوزارية رغم منع الاحتلال وصول الوفد إلى رام الله، يعكس موقفاً واضحاً من تحدي إجراءات العزل السياسي التي تمارسها إسرائيل بحق السلطة الفلسطينية. استقبال الوفد عبر الدائرة التلفزيونية ليس مجرد حل تقني، بل رسالة مفادها أن الحصار السياسي المفروض من الاحتلال لن يمنع التنسيق العربي المشترك، ولا التواصل مع الحاضنة الإقليمية للقضية الفلسطينية.
كلمة الرئيس جاءت أيضًا في توقيت مفصلي يتعلق بالتحضير للمؤتمر الدولي للسلام المرتقب في نيويورك. ومن خلال دعوته إلى مشاركة عربية ودولية واسعة، يحاول الرئيس عباس إعادة تدويل القضية الفلسطينية بعد سنوات من التهميش، وإبراز السلطة الفلسطينية كجهة شرعية وممثل وحيد، قادر على التفاوض والتمثيل السياسي. وهذا يشكل جزءًا من معركة الشرعية السياسية، خصوصًا في ظل التحديات التي فرضها الانقسام الداخلي، وتعامل بعض الدول مع فصائل خارج إطار منظمة التحرير.
خلّي حماس عن الحكم
الرؤية التي عبّر عنها الرئيس بشأن قطاع غزة تحمل أيضًا أبعادًا جوهرية. فهو يضع شروطًا واضحة لإنهاء الانقسام، تبدأ بضرورة تخلّي حركة حماس عن الحكم المنفرد في غزة، واعترافها بسياسات منظمة التحرير، وسلاح شرعي واحد. هذه الرسائل ليست جديدة، لكنها تأتي هذه المرة مترافقة مع انفتاح من السلطة على استلام القطاع في حال تم الاتفاق على وقف إطلاق نار، وبالتعاون مع الدول العربية والمجتمع الدولي. هذا الموقف يهدف إلى إرسال تطمينات بأن البديل عن “حكم حماس” ليس الفوضى، بل سلطة فلسطينية مدنية جاهزة لتحمل المسؤولية، في محاولة لاستعادة غزة سياسيًا وليس فقط جغرافيًا.
كذلك فإن حديث الرئيس عن ضرورة وقف إطلاق النار الفوري، وتسليم الرهائن، والإفراج عن الأسرى، يعكس سعي القيادة الفلسطينية إلى الحفاظ على وحدة الموقف الأخلاقي والوطني، في وقت تُستخدم فيه قضية الرهائن كذريعة إسرائيلية لإطالة أمد العدوان. هو يوجّه الخطاب إلى الداخل والخارج معًا: إلى العالم، بأن الفلسطينيين لا يمانعون في إنهاء الحرب مقابل حلول إنسانية، وإلى الفصائل، بأن معاناة الناس لم تعد تُحتمل ويجب وقفها بأي ثمن.
رفض الانقسام والانقلاب
وفي ظل الأزمات المالية الخانقة التي تعانيها السلطة، يبرز حديث الرئيس عن الأموال المحتجزة لدى الاحتلال – التي تبلغ نحو ملياري دولار – كجزء من مشهد العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل بحق السلطة الشرعية، لتقويض حضورها وتعطيل قدرتها على الاستمرار. الربط بين هذه الأزمة المالية والاحتلال، يهدف إلى دفع الدول العربية والدول المانحة لتحمّل مسؤولياتها تجاه دعم مؤسسات الدولة الفلسطينية، التي تواجه عملية “تجويف بطيئة” تهدف إلى إسقاطها دون قصف.
في المجمل، كلمة الرئيس محمود عباس تعيد تأكيد ثوابت السلطة: دولة فلسطينية، شرعية واحدة، حل سلمي، تسوية عبر المؤتمر الدولي، ورفض الانقسام والانقلاب. لكنها في هذا السياق، تحمل أبعادًا تتجاوز المواقف التقليدية، لتكون بمثابة محاولة لإنقاذ ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني من بين أنقاض غزة، وضغوط الاحتلال، وارتباك المشهد الإقليمي. الكلمة تحاول أن تعيد ترتيب الأوراق، وتُظهر أن السلطة – رغم كل ما تواجهه – لا تزال رقماً في المعادلة، ومصممة على أن تكون في قلب المشهد لا على هامشه.