في لحظة تاريخية فارقة، يتحدث الرئيس محمود عباس عن “نكبة جديدة” تهدد الوجود الفلسطيني برمّته، ليس فقط من خلال العدوان المباشر، بل أيضاً عبر منظومة متكاملة من السياسات الاحتلالية التي تستهدف الإنسان والأرض والهوية. هذه الكلمات التي جاءت في افتتاح أعمال الدورة الـ32 للمجلس المركزي الفلسطيني تعبّر عن شعور عميق بالخطر، لكنها في الوقت ذاته تحاول ترسيخ رؤية سياسية للسلطة الفلسطينية تسعى من خلالها إلى مواجهة التحديات عبر المسارات الدبلوماسية والسياسية، وحشد الدعم العربي والدولي، مع تركيز واضح على أولويات وطنية محددة.
أول هذه الأولويات – كما بيّنها الرئيس – تتمثل في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، ووقف الاستباحة المتكررة لمدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، إلى جانب حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية.
مرجعية وطنية وسياسية
هذه القضايا ليست جديدة على الأجندة الفلسطينية، لكنها اليوم تُطرح في سياق غير مسبوق من العنف والدمار، حيث اتسعت رقعة الهجمات لتشمل كل فلسطين التاريخية، وباتت سياسة “الإرهاب المنظم” – كما وصفها الرئيس – وسيلة الاحتلال لفرض وقائع جديدة تُصادر الحقوق وتُقزّم الكيان الفلسطيني سياسيًا وجغرافيًا.
وفي قلب هذه المواجهة، تسعى السلطة الفلسطينية لتثبيت نفسها كمرجعية وطنية وسياسية، بالرغم من الانقسام الداخلي وتآكل الثقة الشعبية. فالرئيس عباس لم يُخفِ أن أحد أبرز العوامل التي يستغلها الاحتلال هو “نكبة الانقسام” التي حدثت في عام 2007، والتي قسمت الجغرافيا السياسية الفلسطينية، وأضعفت المشروع الوطني أمام أعدائه. ومع ذلك، فإن ما يطرحه من رؤية يرتكز على توحيد الصف الفلسطيني، ليس فقط كهدف داخلي، بل كشرط أساسي لصمود المشروع التحرري في وجه آلة الاحتلال والاستيطان.
محاولة خنق السلطة
من التحديات الكبرى التي أشار إليها الرئيس أيضاً، والتي لا تقل خطورة عن الهجمات العسكرية، هي الحرب الاقتصادية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، والمتمثلة في حجز أموال المقاصة التي تُعد أحد أهم مصادر دخل السلطة. أكثر من ملياري دولار تحتجزها إسرائيل، في خطوة لا يمكن تفسيرها إلا على أنها محاولة لخنق السلطة مالياً، ودفعها نحو الانهيار أو على الأقل نحو القبول بالإملاءات الإسرائيلية السياسية.
وهنا تبرز أهمية النضال السياسي والدبلوماسي الذي تقوده السلطة على الساحة الدولية لكشف هذه الممارسات، ومحاولة إيجاد شبكة أمان مالية عربية أو دولية لتفادي الانهيار المالي الذي سيكون له انعكاسات كارثية على الواقع الفلسطيني.
ومع أن الاحتلال يواصل الاستيلاء على الأراضي ومصادرة الممتلكات، فإن السلطة تطرح رؤية واضحة لما تسميه “السلام العادل والشامل”، وهي رؤية تقوم على إنهاء الاحتلال وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، بما يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس، تعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل.
معركة وجودية
قد تبدو هذه الرؤية صعبة التحقيق في ظل موازين القوى الحالية، لكنها تظل في صلب التحرك السياسي الفلسطيني الذي يستهدف فضح إسرائيل كدولة فوق القانون، ترفض الالتزام بالاتفاقيات، وتستخدم التطرف والعنف كوسيلة لبسط الهيمنة.
السلطة الفلسطينية إذن تواجه معركة وجودية في مواجهة الاحتلال، وفي الوقت نفسه تحاول أن تُعيد بناء الداخل الفلسطيني وتوحيد خطابه السياسي، مستندة إلى الشرعية الدولية وحقوق الفلسطينيين التاريخية. لكن التحدي الحقيقي يبقى في قدرتها على استعادة ثقة الشارع الفلسطيني، وتفعيل المؤسسات الوطنية لتكون أكثر فاعلية ومناعة أمام محاولات الاختراق والتفكيك.