مع أداء كامل الطيب إدريس اليمين الدستورية رئيسًا لوزراء السودان، يدخل البلد مرحلة جديدة من التجريب السياسي وسط أزمات متداخلة ومتراكمة، أمنية واقتصادية واجتماعية. هذه اللحظة المفصلية ليست مجرد تغيير في الوجوه، بل تمثل محاولة لإعادة هندسة السلطة التنفيذية في ظل غياب مؤسسات ديمقراطية مستقرة، وبالتوازي مع واقع تشظي الدولة وتآكل مؤسساتها منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.
تسلم إدريس لمهامه في العاصمة المؤقتة بورتسودان، بحضور رموز الدولة السيادية، يحمل في طياته أكثر من رسالة: محاولة لاستعادة هيبة الدولة المركزية، والإيحاء بأن هناك “دولة عاملة” رغم انهيار مؤسساتها في الخرطوم، وسعي متجدد لإقناع الداخل والخارج بإمكانية بناء مشروع إنقاذ وطني من قلب الأزمة.
تعهدات مثقلة بالتحديات
التعهد الذي قطعه إدريس بتكريس جهوده من أجل تحقيق “العيش الكريم” للمواطن، وتوطيد الحكم الديمقراطي، يتقاطع مع مطالب دولية وإقليمية واضحة: عودة السودان إلى مسار التحول المدني والديمقراطي. لكن تنفيذ هذه الوعود يتطلب بنية دولة شبه غائبة، ونخباً سياسية قادرة على التفاهم والاشتراك في مشروع وطني، وهو ما لم يتوفر منذ سقوط نظام البشير في 2019.
التفاؤل الذي عبّر عنه مجلس السيادة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، و”إيغاد”، لا يلغي الشكوك العميقة داخل الشارع السوداني، الذي يرى في أغلب هذه التعيينات تكرارًا لنهج النخبة المعزولة عن معاناة الناس، خاصة مع تواصل النزوح، والانهيار الاقتصادي، وغياب الأمان في معظم المدن.
حكومة منتظرة وسط نيران المصالح
تشكيل الحكومة الجديدة سيكون التحدي الأول الذي سيفضح قدرة إدريس على التحرك بين الألغام. عليه أن يوازن بين ضرورة الكفاءة، والرضا السياسي للفصائل والأطراف الفاعلة، دون السقوط في فخ المحاصصات التي أنهكت الحكومات الانتقالية السابقة. وأخطر ما ينتظر هذه الحكومة هو “الدولة العميقة” من أصحاب المصالح والنفوذ داخل الوزارات، كما أشار الوزير السابق طارق توفيق، إضافة إلى القوى التي استفادت من حالة الفوضى وتحوّلت إلى مراكز ضغط تعمل على إجهاض أي إصلاح حقيقي.
المطلوب من إدريس هنا ليس فقط مقاومة هؤلاء، بل بناء تحالف مؤسسي يُعيد للمؤسسات هيبتها، وهذا يتطلب غطاء سياسيًا قويًا لا يبدو متوفرًا بالكامل، خاصة أن علاقته مع المؤسسة العسكرية ما زالت في طور الاختبار، رغم ما أبداه البرهان من دعم معلن.
بين الواقع والطموح: هل يستطيع كامل إدريس كسر الحلقة المفرغة؟
من المعروف عن كامل إدريس خلفيته القانونية والدبلوماسية وخبرته الدولية، لا سيما في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهو ما يمنحه رصيدًا معنويًا في مخاطبة المجتمع الدولي، ومحاولة إعادة السودان إلى خارطة الدعم التنموي والدبلوماسي. لكن هذا الرصيد لن يُصرف محليًا إذا لم يقترن بتحقيق نتائج ملموسة.
يبقى السؤال الأهم: هل إدريس مجرد واجهة لتسكين التوترات، أم أنه يتمتع فعلاً بصلاحيات تنفيذية كاملة؟ الإجابة عن هذا السؤال ستتضح في الأيام المقبلة من خلال تعييناته، وقدرته على فرض رؤيته، ومدى استقلاليته عن المؤسسة العسكرية التي ما تزال تمسك فعليًا بمفاصل السلطة في السودان.
مشروع إنقاذ
كمال إدريس يبدأ مهمته وسط أنقاض دولة تعيش واحدة من أعقد لحظاتها التاريخية. التحديات هائلة، من الفقر، والجوع، والنزوح، إلى الحرب المفتوحة بين الجيش والدعم السريع، وانهيار الثقة بين مكونات المجتمع السوداني. ونجاحه – إن تحقق – لن يكون إلا من خلال مشروع إنقاذ وطني جريء، يتجاوز الحسابات الضيقة، ويعتمد على الكفاءة والمصارحة، وعلى تفكيك بنية الفساد والمصالح داخل أجهزة الدولة.
الرهان كبير، لكن الوقت ليس في صالح أحد، والشعب السوداني ينتظر أفعالًا لا أقوالًا.