في خطوة تعكس تصاعد التوتر الدبلوماسي بين الخرطوم وواشنطن، رفضت الحكومة السودانية -اليوم الجمعة- الاتهامات الأميركية التي تزعم استخدام الجيش السوداني لأسلحة كيميائية في صراعه مع قوات الدعم السريع، معتبرة أن هذه المزاعم تدخل في سياق “الابتزاز السياسي” و”تزييف الحقائق”. وجاء هذا الرد بعد يوم من بيان أميركي غير مسبوق تحدث عن “مخاوف” من استخدام أسلحة محظورة دون تقديم أدلة أو تحديد مسرح الجريمة المزعومة.
تصريحات رسمية غاضبة: الخرطوم تتهم واشنطن بالتحريض
المتحدث باسم الحكومة السودانية، وزير الإعلام خالد الإعيسر، وصف الاتهامات بأنها “تفتقر للمصداقية” وتأتي في إطار “محاولات الضغط السياسي في لحظة حرجة من عمر الدولة السودانية التي تواجه تمردًا مسلحًا مدعومًا خارجيًا”. الإعيسر رأى في التصريحات الأميركية انحيازًا فجًّا ضد الدولة السودانية الشرعية، ومحاولة لتقويض جهودها في استعادة الأمن والاستقرار، عبر ما وصفه بـ”استغلال قضايا حقوق الإنسان كأداة لتصفية الحسابات السياسية”.
وزارة الخارجية السودانية بدورها أعربت عن “الدهشة البالغة” من البيان الأميركي، مؤكدة في بيان نقلته وكالة الأنباء الرسمية “سونا” أن “الخرطوم تنفي جملة وتفصيلًا هذه المزاعم التي تفتقد إلى أي دلائل ميدانية، وتستند إلى تقارير غير محايدة”.
التصعيد الأميركي: عقوبات اقتصادية تدخل حيز التنفيذ
الموقف الأميركي لم يقتصر على الإدانة الخطابية، بل صاحبه الإعلان عن فرض عقوبات اقتصادية جديدة تشمل حظر صادرات تكنولوجية معينة إلى السودان، وفرض قيود على قدرة الحكومة السودانية في الوصول إلى القروض والتمويل الأميركي. ومن المقرر أن تدخل هذه الإجراءات حيز التنفيذ في السادس من يونيو/حزيران المقبل، في خطوة من شأنها أن تزيد الضغط على الاقتصاد السوداني المنهك أصلًا بالحرب والتدهور المالي.
ويأتي هذا التصعيد ضمن نمط واضح تبنته إدارة بايدن مؤخرًا في التعامل مع الملف السوداني، إذ سبق أن فرضت واشنطن عقوبات على قادة من الجيش والدعم السريع على خلفية اتهامات بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023.
قراءة في التوقيت والسياق: من يستفيد من الاتهام؟
يثير التوقيت الذي أُطلقت فيه الاتهامات الأميركية أسئلة مشروعة حول خلفياتها، خصوصًا أن واشنطن لم تقدم حتى اللحظة أي معلومات محددة حول مكان أو زمان الاستخدام المفترض للأسلحة الكيميائية. كما لم يُعلن عن أي تحقيق أممي أو دولي مستقل يدعم هذه المزاعم.
ويلاحظ أن هذه الاتهامات تزامنت مع تحركات دبلوماسية أفريقية تهدف إلى إحياء مسار التفاوض بين الجيش والدعم السريع، فضلًا عن اتصالات إقليمية لحلحلة الأزمة السياسية في السودان. ما يدفع بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن واشنطن ربما تسعى إلى التأثير على ميزان القوى التفاوضي أو إرسال رسائل سياسية مشفرة إلى أطراف دولية تدعم طرفي النزاع، خصوصًا في ظل ما يُتداول عن اتصالات سرية جارية خلف الكواليس.
الجيش السوداني بين الدفاع السياسي والتحدي الميداني
الاتهامات الأميركية تُلقي بظلالها على أداء الجيش السوداني الذي يخوض منذ أكثر من عامين مواجهة دامية مع قوات الدعم السريع، وهي مواجهة اتسعت جغرافيًا وتعقّدت سياسيًا، وسط اتهامات متبادلة بارتكاب انتهاكات ممنهجة ضد المدنيين.
وفي ظل انحسار الدعم الدولي الفاعل للخرطوم، تسعى الحكومة السودانية إلى إعادة تدوير خطابها الخارجي حول “سيادة القرار الوطني”، وتقديم نفسها كحكومة شرعية تواجه تمرّدًا مدعومًا من قوى خارجية، وهو الخطاب الذي قد يجد آذانًا صاغية في بعض العواصم الأفريقية والعربية التي تتحسس من التدخلات الغربية المتزايدة.
أزمة ثقة تتعمّق بين الخرطوم وواشنطن
تكشف هذه الجولة من الاتهامات والردود عمق الفجوة بين الإدارة الأميركية والحكومة السودانية، كما تفضح هشاشة القنوات الدبلوماسية بين البلدين. ففي الوقت الذي تواجه فيه السودان أحد أسوأ أزماته السياسية والإنسانية منذ الاستقلال، يبدو أن واشنطن اختارت التصعيد بدلًا من الاحتواء، فيما تجد الخرطوم نفسها محاصَرة دوليًا، ومطالَبة في الوقت نفسه بخوض معركة داخلية على أكثر من جبهة.
سواء ثبتت المزاعم أو لم تثبت، فإن تداعياتها السياسية باتت واضحة، وأخطرها احتمال فرض مزيد من العزلة الدولية على السودان في لحظة حاسمة من تاريخه المعاصر.