تجدّدت مساء اليوم الثلاثاء الاشتباكات داخل مدينة السويداء بين قوات الأمن السوري وما تُوصف بـ”المجموعات المسلحة”، في مشهد يشي بانهيار سريع لوقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه قبل ساعات فقط من طرف وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، ما يضع التسوية الهشة في اختبار مبكر وخطير.
ورغم التطمينات التي أطلقها أبو قصرة عبر منصة “إكس”، والتي أكد فيها التزام القوات بـ”وقف تام لإطلاق النار”، مع حصر الرد على مصادر النيران فحسب، إلا أن الواقع الميداني أفصح عن مشهد آخر؛ فالقذائف عادت لتعلو أصواتها، وسُمع دوي الاشتباكات من قلب الأحياء السكنية، ما يعكس هشاشة الاتفاق وانعدام الثقة بين الطرفين.
الجيش يواصل انتشاره و”السويداء 24″ تنشر بياناً للفعاليات المحلية
في سياق موازٍ، أكد مصدر أمني سوري – لوكالة سانا الرسمية – استمرار انتشار قوات الأمن الداخلي في أحياء السويداء لـ”حماية المدنيين والممتلكات العامة”، مع ردها المباشر على مصادر إطلاق النار. ويأتي هذا في وقتٍ بثّت فيه شبكة “السويداء 24” بياناً مصوراً لفعاليات اجتماعية ومشيخة العقل، أكدوا فيه أن ما يجري ليس إلا نتيجة “انهيار اتفاقات الحوار السابقة”، متهمين جهات محلية بالسعي لـ”تعطيل الهدوء ونشر الفوضى”.
وذكر البيان أن اتفاق الأول من أيار كان “فرصة حقيقية لتفادي إراقة الدماء”، لكن “المراهنين على السلاح والحلّ الأمني قادوا المشهد نحو التصعيد”، وفق تعبيرهم. ولم يخلُ البيان من نبرة تحذير اجتماعي، حيث أشار إلى التداعيات العشائرية والاجتماعية الخطيرة لما وصفوه بـ”نزيف داخلي غير مبرر”.
ترحيب مشروط بمبادرة الدولة… لكن الانقسام حاضر
في المقابل، رحّبت الرئاسة الروحية للمسلمين الموحدين الدروز بخطوة دخول قوات وزارتي الدفاع والداخلية إلى المحافظة، معتبرة أن هذه الخطوة تهدف إلى “ضبط الأمن، وحماية مؤسسات الدولة من الانهيار”، لكنها دعت – في نبرة توفيقية – إلى أن تتم العمليات الأمنية بـ”أدنى قدر من القوة”، مع احترام الكرامة المحلية وشروط الحوار الأهلي.
لكن سرعان ما تعرّض هذا الترحيب إلى هزّة داخلية، إذ خرج الشيخ حكمت الهجري – أحد أبرز شيوخ العقل في السويداء – ليعلن أن البيان الذي نُشر “صادر تحت ضغط السلطة في دمشق”، وذهب أبعد من ذلك حين دعا إلى مقاومة ما وصفه بـ”الاجتياح الأمني للمدينة”، ما خلق انقساماً حاداً داخل المرجعيات الدينية والاجتماعية الدرزية، وبين مشايخ الإصلاح ومشايخ التصعيد.
فوضى السلاح وغياب الدولة المؤسسية
المشهد برمته يُعيد إلى الواجهة واحدة من أعمق أزمات محافظة السويداء: غياب الدولة المؤسسية منذ أشهر، وتنامي السلاح العشوائي بيد فصائل محلية وعشائرية ذات أجندات متضاربة، بعضها يستظل براية الحقوق الاجتماعية والدفاع عن الذات، وبعضها الآخر يغرق في عمليات الخطف والفوضى الاقتصادية.
ففي ظل الفراغ الأمني والمؤسساتي الذي تعيشه السويداء، بدا من الحتمي أن يتفجّر الوضع في أي لحظة، وهو ما حدث بالفعل عقب أشهر من تراكم التوتر، تخللتها محاولات تفاوض متكررة بوساطات عشائرية وروحية، لكنها اصطدمت دائماً بجدار غياب الثقة، أو باستثمار بعض الأطراف للفوضى كوسيلة ضغط سياسي.
السؤال الأخطر: هل نُسف اتفاق التهدئة؟
رغم أن وزارة الدفاع السورية ما زالت تُصر على التزامها “بعدم استهداف المدنيين”، وتؤكد أن تحرّكها موجّه حصراً نحو “المجموعات الخارجة عن القانون”، فإن استمرار الاشتباكات اليوم – بعد ساعات من إعلان وقف إطلاق النار – يضع هذا الالتزام موضع تشكيك، ويفتح الباب أمام تكرار سيناريوهات دموية مشابهة لما شهدته درعا أو مخيم اليرموك في السنوات الماضية.
من جهة أخرى، فإن موقف الشيخ حكمت الهجري – بمكانته الرمزية والاجتماعية – قد يُطلق العنان لمزيد من التحريض المحلي ضد الدولة السورية، ما لم تُبادر السلطات إلى تطويق المشهد بخطاب سياسي ناضج، يوازن بين فرض الأمن واحترام الخصوصيات المحلية، وخاصة في بيئة دينية واجتماعية تُحكمها موروثات حساسة.
تعايش هش على فوهة بركان
السويداء اليوم ليست أمام معركة تقليدية بين جيش وفصائل مسلحة، بل في قلب معضلة وطنية مركّبة، تتداخل فيها الدولة المنهكة، والمجتمع المشتت، وغياب التنمية، وسلاح الانفلات، والتدخلات الخارجية. ولذلك، فإن أي اتفاق هش لا يُبنى على رؤية استراتيجية لإعادة دمج المحافظة في مشروع الدولة، لن يكون إلا هدنة مؤقتة تُبقي الجميع على فوهة بركان.