في خطوة دبلوماسية غير مسبوقة منذ أكثر من عقد، تستعد العاصمة الفرنسية باريس، يوم غد الأربعاء، لاستقبال الرئيس السوري أحمد الشرع، في زيارة رسمية تندرج ضمن سياق الانفتاح الدولي التدريجي على سوريا الجديدة، بعد سنوات من القطيعة والعزلة التي رافقت حكم الرئيس السابق بشار الأسد.
الرئاسة الفرنسية أعلنت رسميًا أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيستقبل نظيره السوري في قصر الإليزيه، مؤكدة أن اللقاء سيشكل محطة محورية في العلاقات الفرنسية-السورية، ويعكس رغبة باريس في مرافقة التحولات السياسية الجارية في دمشق، ودعم جهود استعادة الاستقرار في البلاد والمنطقة الأوسع.
دعم واضح لـ “سوريا جديدة”
البيان الصادر عن قصر الإليزيه أكد أن ماكرون سيجدد خلال اللقاء موقف بلاده الداعم لبناء “سوريا جديدة، حرّة، مستقرة، وذات سيادة”، في إشارة واضحة إلى دعم فرنسا للمسار السياسي الذي تشهده سوريا منذ إطاحة النظام السابق، وإلى رغبتها في ترسيخ التعددية واحترام مكونات المجتمع السوري المختلفة ضمن دستور جديد يعكس واقع ما بعد الحرب.
باريس التي احتضنت في السابق العديد من الاجتماعات المتعلقة بالشأن السوري، تبدو اليوم مصممة على لعب دور مباشر وأكثر انخراطًا في إعادة رسم العلاقات مع دمشق، خاصة في ظل التقارب الأوروبي المتزايد مع عدد من دول المنطقة، ووجود إدارة سورية جديدة توحي بانفتاح دبلوماسي محتمل.
استقرار لبنان ومكافحة الإرهاب على رأس الأولويات
بحسب مصادر فرنسية مطّلعة، فإن لقاء الشرع وماكرون لن يقتصر على الإطار البروتوكولي، بل سيتناول ملفات إقليمية حساسة، أبرزها الوضع في لبنان، حيث تسعى باريس إلى احتواء التدهور السياسي والاقتصادي هناك عبر مقاربة إقليمية تشمل دمشق. كما سيبحث الجانبان سبل تعزيز التعاون الأمني، وخصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب، لا سيما في ظل عودة نشاط بعض الخلايا المتطرفة في مناطق متعددة من الشرق الأوسط.
فرنسا، التي تعرضت خلال السنوات الماضية لسلسلة من الهجمات الإرهابية، تعي أهمية التنسيق الأمني مع الدول المحورية في المنطقة، وتضع استقرار سوريا في صلب رؤيتها لمنطقة متوازنة تقل فيها بؤر التوتر والانفجار الأمني.
زيارة تحمل أبعادًا اقتصادية: شهية فرنسية مفتوحة
إلى جانب الملفات السياسية، تحمل الزيارة أبعادًا اقتصادية بالغة الأهمية. مصادر مطّلعة كشفت أن باريس تسعى إلى دخول السوق السورية مجددًا، خاصة في القطاعات ذات الأولوية بعد الحرب، كإعادة الإعمار والطاقة والنقل والسياحة. شركات فرنسية كبرى، منها “توتال إنرجي” و”أكور” و”فينسي”، أبدت استعدادها المبدئي للعودة إلى سوريا، إذا ما توفرت البيئة القانونية والأمنية الملائمة.
قطاع النفط والغاز تحديدًا يمثل إحدى أبرز أولويات الجانب الفرنسي، إذ تشير التقارير الاقتصادية إلى وجود احتياطات سورية كبيرة غير مستغلة في شرق البلاد، والتي يمكن أن تكون محور شراكة استراتيجية في مرحلة ما بعد الاستقرار.
كما تضع فرنسا أعينها على قطاع السياحة، الذي شهد تدهورًا كبيرًا خلال الحرب، لكنه لا يزال يحتفظ بإمكانات كبيرة نظرًا لغنى سوريا التاريخي والحضاري. وتشير دوائر اقتصادية إلى اهتمام خاص بإعادة تأهيل البنية السياحية في دمشق وحلب وتدمر، وربطها بشبكات النقل الحديثة.
ولا تغفل فرنسا كذلك عن فرص الاستثمار في قطاع الخدمات، من البنى التحتية إلى التكنولوجيا والاتصالات، حيث يمكن أن تلعب الشركات الفرنسية دورًا محوريًا في تحديث البنية الاقتصادية السورية، في حال قررت دمشق اعتماد نماذج انفتاحية على غرار ما جرى في دول أخرى شهدت تحولات مشابهة.
استعادة المبادرة الدبلوماسية
الزيارة المرتقبة تأتي تتويجًا لدعوة رسمية كان ماكرون قد وجهها للشرع في فبراير الماضي، بعد مراقبة فرنسية دقيقة للمشهد السوري الجديد. وقد اعتبرتها دوائر فرنسية وعربية بادرة ذات دلالة، تشير إلى أن باريس بدأت تتحرر تدريجيًا من الحسابات السياسية القديمة التي ربطت موقفها بالقطيعة الكاملة مع النظام السابق.
توقيت الزيارة أيضًا يعكس رغبة فرنسية في استعادة المبادرة على الساحة السورية، في ظل منافسة روسية-إيرانية-تركية متصاعدة، ومحاولة من باريس لإعادة التموضع في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة السورية.
خاتمة: بداية لمرحلة جديدة؟
سواء انتهت الزيارة بتوقيع اتفاقات أو بقيت في إطار إعلان النوايا، فإنها تمثل تحولًا نوعيًا في علاقات فرنسا مع سوريا. فاللقاء المرتقب بين الشرع وماكرون قد يكون الخطوة الأولى في مسار إعادة دمج سوريا الجديدة في محيطها الدولي، وفتح قنوات دعم اقتصادي وسياسي كانت مغلقة لسنوات.
يبقى أن مدى نجاح هذه الزيارة في إنتاج ديناميات جديدة، سيعتمد إلى حد كبير على الاستجابة السورية للرهانات الدولية، ومدى قدرة الحكومة الجديدة في دمشق على الحفاظ على استقلالية القرار، مع إدارة توازنات الداخل والخارج بدقة.