مع اقتراب موعد القمة العربية المقررة في بغداد في 17 مايو/أيار، تشهد الساحة العراقية انقسامًا سياسيًا وشعبيًا حادًا بشأن دعوة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم “أبو محمد الجولاني”، أحد أبرز رموز التنظيمات الجهادية المسلحة خلال سنوات الاحتلال الأمريكي والحرب السورية، والذي أصبح الآن رئيسًا لسوريا ما بعد الأسد.
عودة الشرع، التي كانت غير واردة قبل أكثر من عقد، أصبحت ممكنة اليوم بفضل تحوّلات إقليمية ورغبة عربية في دمج سوريا الجديدة في الفضاء السياسي العربي، لكن هذه العودة، وإن جاءت عبر مظلة جامعة الدول العربية، اصطدمت بجدار واسع من الرفض العراقي الداخلي، متمثلًا في فصائل المقاومة، وبعض التيارات السياسية، والمرجعيات العشائرية، التي رأت في حضور الشرع “إهانة لدماء العراقيين”، وخرقًا للقانون العراقي الذي ما يزال يحتفظ بمذكرة توقيف باسمه بتهم تتعلق بالإرهاب.
ورغم أن دعوة الشرع لحضور القمة لم تكن بمبادرة عراقية، بل تنفيذًا لالتزامات الدولة المستضيفة تجاه الجامعة العربية، فإن هذا التوضيح الرسمي لم يكن كافيًا لتهدئة الغضب الشعبي، ولا لإقناع الفاعلين المؤثرين في الشأن السياسي الداخلي، الذين رأوا في الأمر استفزازًا يتجاوز البعد الدبلوماسي، ويضرب في عمق الذاكرة الوطنية العراقية.
الأحزاب القريبة من “الإطار التنسيقي”، ولا سيما عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، عبّرت صراحة عن رفضها لدخول الشرع إلى العراق. زعيم العصائب، قيس الخزعلي، حذّر من عواقب قانونية في حال دخول الشرع، مشيرًا إلى أن الأجهزة الأمنية قد تكون مضطرة لتنفيذ مذكرة التوقيف. أما كتائب حزب الله، فقد وصفت حضور الشرع بأنه أمر غير ضروري، مستشهدة بانعقاد قمم عربية سابقة دون سوريا، وبدون مشاركته.
وبينما شددت فصائل المقاومة على ضرورة احترام قرارات القضاء العراقي، استُخدم هذا الموقف قانونيًا وأخلاقيًا في الوقت ذاته، لتبرير رفضهم لدعوة الشرع، مستندين إلى تاريخه المعروف في العراق وسجله خلال فترة ما بعد 2003. وقد استعاد كثير من الناشطين السياسيين صورًا وشهادات عن نشاط الجولاني خلال فترة سجنه في العراق، ثم انخراطه في الصراع المسلح ضد الدولة السورية كجزء من جبهة النصرة المصنفة عالميًا كتنظيم إرهابي.
وفي خضم هذه الأزمة، وجدت الحكومة العراقية نفسها عالقة بين التزاماتها تجاه الجامعة العربية، وحساباتها الداخلية المعقدة. رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، المتهم ضمنًا بالتقارب مع أطراف إقليمية فاعلة، لا سيما قطر، وإيران، يُواجه ضغوطًا متصاعدة من خصومه في الداخل الذين يخشون أن يتحول استقبال الشرع إلى ورقة تُستخدم ضده في سياق الصراع على رئاسة الحكومة بعد الانتخابات المقبلة.
في الوقت ذاته، حاول بعض السياسيين العراقيين التوفيق بين الالتزام الدبلوماسي والاعتبارات القانونية. النائب ثائر مخيف، على سبيل المثال، لم يرفض زيارة الشرع مبدئيًا، لكنه دعا إلى الاحتكام إلى القضاء، مشددًا على أن مَن تلطخت يداه بدماء العراقيين لا يُمكن أن يُستقبل على السجاد الأحمر.
أما على مستوى العشائر، فكان الرفض القبلي الشيعي للزيارة شبه مطلق، مع بيانات من مجلس القبائل الموحد تؤكد أن حضور الشرع يُمثل “خيانة للدماء التي أُريقت في مواجهة الإرهاب”. في المقابل، جاءت المواقف السنية منقسمة، إذ اعتبر البعض أن المصالح الدبلوماسية تفوق الحسابات القديمة، بينما رفض آخرون، مثل الشيخ مزاحم الحويت، الزيارة استنادًا إلى تاريخه الدموي، مستحضرين لحظة سجنه إلى جانب الجولاني نفسه في المعتقلات الأمريكية.
التعقيد لا يقف عند البُعد القانوني أو العشائري، بل يمتد إلى رهانات إقليمية أوسع، حيث يُنظر إلى لقاء السوداني بالشرع في الدوحة، برعاية قطرية، كجزء من تقارب تكتيكي مع محور يشمل سوريا، وإيران، ولبنان، ما قد يُعيد رسم موقع العراق في خارطة التوازنات الإقليمية. ومن هذا المنظور، يرى مراقبون أن الحكومة العراقية تسعى إلى توظيف القمة لتعزيز دورها الإقليمي، لا سيما في ظل الهشاشة السياسية التي تعصف بالعديد من الدول المجاورة.
غير أن هذا التقدير لا يُرضي خصوم السوداني، الذين يسعون إلى إجهاض طموحه في ولاية ثانية. فبحسب تحليل للكاتب العراقي جبار المشهداني، فإن مسألة دعوة الشرع تحوّلت إلى ساحة صراع داخلي، تُستخدم فيها جميع الوسائل السياسية والإعلامية لتصفية الحسابات بين أقطاب السلطة، ولو على حساب صورة العراق الخارجية.
وبينما لا تزال مشاركة الشرع في القمة غير محسومة رسميًا، إلا أن السجال الدائر حولها كشف هشاشة التوافق العراقي الداخلي، وصعوبة الفصل بين الحسابات السياسية والمواقف المبدئية. وإذا ما قرر الشرع الحضور بالفعل، فإن التحدي الأكبر لن يكون أمنيًا فحسب، بل سياسيًا وأخلاقيًا، يُهدد بإشعال توتر داخلي قد يُطيح بما تبقى من هامش الاستقرار في البلاد.
في المحصلة، باتت زيارة الشرع المحتملة إلى بغداد أكثر من مجرد دعوة دبلوماسية. إنها اختبار صعب للسيادة العراقية، ولتوازنات الداخل، وللموقع الإقليمي للعراق في مرحلة ما بعد الربيع العربي، والربيع المضاد. فهل ينجح العراق في عبور هذه القمة بأقل الخسائر السياسية؟ أم تتحوّل بغداد إلى ساحة اشتباك جديدة في معركة النفوذ الإقليمي والدولي؟