أحدث إعلان الصين وروسيا عام 2022 إقامة شراكة “بلا حدود” مع “عدم وجود مناطق محظورة” تأثيراً بعيد المدى، فقد كان الاتفاق يعني أن بكين وموسكو على وشك إحياء تحالفهما الذي كان قد انقضى منذ فترة طويلة، والذي شكل تهديداً كبيراً خلال الخمسينيات من القرن الماضي عندما ربط بين هاتين القوتين لفترة قصيرة، وكان يشكل تهديداً لم تستطع الولايات المتحدة تجاهله.
وعلى رغم خلافاتهما العديدة فقد وصف الرئيس الصيني شي جينبينغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه “صديقه العزيز”، وسُمع في مارس (آذار) 2023 وهو يقول له إنهما معاً “يقودان تغييرات لم تشهدها البشرية منذ قرن”، وقد تمخضت اجتماعاتهما المتكررة عن مجموعة من التصريحات التي تسلط الضوء على معارضة مشتركة لـ “الهيمنة”، وهي عبارة ترمز للهيمنة الأميركية، كما أنها تعد بتحقيق نظام دولي “أكثر عدالة”، وطبقاً لإيغور مورغولوف، سفير روسيا لدى الصين، فقد قبل شي دعوة بوتين إلى حضور احتفالات يوم النصر في موسكو في مايو (أيار) 2025، وامتد نطاق شراكتهما ليشمل ما هو أبعد من الخطابات والرمزية، فقدمت الصين الدعم المادي في الحرب العدوانية الوحشية التي تشنها روسيا على أوكرانيا وذلك في صورة تقنيات ذات استخدام مزدوج ولها تطبيقات عسكرية وتجارية، وكذلك شراء النفط والغاز الروسيين.
ومع ذلك لا تزال القيادة الصينية مترددة في شأن روسيا، إذ تخشى التورط في خطط بوتين الراديكالية المعادية للغرب وتنظر بقلق إلى احتمال حدوث حرب باردة لا ترغب فيها الصين ولا تعرف كيف تخوضها، كما لا ترغب بكين في الالتزام بتحالف رسمي مع روسيا وتقاوم بشدة فكرة انتمائها إلى “محور” من نوع ما مع روسيا وكوريا الشمالية وإيران، إذا ما علمنا أن نظام كيم جونغ أون في بيونغ يانغ أصبح مصدر الإزعاج الرئيس لبكين.
في يناير (كانون الثاني) 2025 كنت من المشاركين في مناقشات في مدينتي بكين وسانيا في الصين نظمتها “جامعة تسينغهوا”، وكان القصد منها أن تعمل كشكل من أشكال الدبلوماسية غير الرسمية الذي يعتبر نشاطاً يجتمع في إطاره عدد من فواعل المجتمع المدني غير الحكوميين من بلدان مختلفة بغرض مناقشة العلاقات بين حكوماتهم، وقد جمع هذا الحوار أكاديميين ومسؤولين ودبلوماسيين سابقين من الصين وروسيا والولايات المتحدة لإجراء محادثات ساخنة ولكنها مثمرة.
برزت رؤية لافتة من هذه المحادثات وهي أن السبب الرئيس وراء ما يبدو أنه تردد بكين في بناء تحالف ثلاثي مع روسيا وكوريا الشمالية هو أن مثل هذا الترتيب سيتطلب قيادة إستراتيجية من الصين، وهو أمر لا تبدي بكين أي اهتمام به على الإطلاق، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن أي محور تقوده الصين سيتطلب وجود هدف واضح يمكن لحلفائها الالتفاف حوله، لكن لا يبدو أن أحداً في بكين يعرف ما ينبغي أن يكون عليه هذا الهدف.
إن تردد الصين في قيادة تحالف من شركاء لا تثق بهم في مواجهة الغرب يشير إلى أن قادتها يدركون الكُلف الباهظة للمواجهة ويسعون إلى التحوط من الأخطار، كما أن الدبلوماسية غير التقليدية التي انتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترمب والتي جمعت بين الخطاب العدائي والتهديدات بالحرب الاقتصادية، وبين وعود بالتعاون بين القوى العظمى، بما في ذلك الصين وروسيا، زادت حال عدم اليقين في بكين حيال توجهات الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك تمتلك واشنطن فرصة ذهبية لاختبار نيات الصين من خلال جهود دبلوماسية متجددة، حتى في الوقت الذي تستعد لاحتوائها.
ندم القائد
ركزت المشاورات التي حضرتها على علاقة الصين بالنظام المارق في كوريا الشمالية، ومن وجهة نظر المشاركين الصينيين لم تشجع بكين تحول كيم الأخير نحو روسيا والذي تُوج بتوقيع معاهدة تحالف مع موسكو في يونيو (حزيران) 2024، بل من المرجح أن بكين لم تُستشر مسبقاً في شأن هذه الخطوة، كما أن شي لم يوافق على التورط المباشر لكوريا الشمالية في حرب روسيا ضد أوكرانيا، وهو التورط الذي شمل نشر نحو 10 آلاف جندي كوري شمالي في منطقة كورسك الروسية لصد هجوم أوكراني، وقد أظهر هذا التحرك أن كيم مستعد وقادر على التصرف بصورة مستقلة عن بكين، على رغم اعتماده المستمر على التجارة مع الصين لبقاء نظامه، ومن خلال تقديمه قوات وكميات ضخمة من الذخائر إلى بوتين، حرص كيم على توجيه رسالة واضحة إلى شي مفادها أنه ليس تابعاً للصين.
وخلال هذه المشاورات أعرب الروس عن أسفهم لغياب التنسيق بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا، فبوتين الذي يلتقي شي وكيم بصورة متكررة، ولكن كلاً على حدة، يطمح إلى عقد قمة ثلاثية لتعزيز العلاقات بين الدول الثلاث، إلا أن شي وكيم لم يلتقيا منذ عام 2019، وقد كانت هذه الدول تعقد مشاورات ثلاثية في الماضي آخرها في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، لكن كوريا الشمالية باتت تعارض مثل هذه الاجتماعات حالياً مفضلة التقارب مع روسيا على حساب الصين.
وبكين أيضاً غير مستعدة لإنشاء كتلة في شرق آسيا، ويرجع ذلك جزئياً لمخاوفها من أن يؤدي ذلك إلى دفع اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف أكثر وضوحاً ضد الصين، كما أن الصين قلقة بدرجة أكبر بكثير من روسيا حيال البرنامج النووي لكوريا الشمالية، فبينما تقبلت موسكو بواقعية براغماتية فكرة وجود كوريا شمالية نووية، ترى بكين أن العواقب المحتملة قد تدفع اليابان وكوريا الجنوبية إلى تطوير برامج نووية خاصة بهما، ولذلك قد تكون الصين حريصة على استئناف محادثات نزع السلاح النووي مع بيونغ يانغ حتى لو بدا أن تحقيق هدف شبه جزيرة كورية خالية من الأسلحة النووية أمر بعيد المنال، وقد أعرب بعض المشاركين الصينيين عن قلقهم إزاء النزعة العسكرية المتزايدة لدى كوريا الشمالية، بما في ذلك احتمال أن يقوم نظام كيم بشن استفزازات عسكرية ضد كوريا الجنوبية، وليس من المستغرب أن تخشى الصين الانجرار إلى صراع بسبب دولة عميلة مضطربة وغير متوقعة، سواء أكانت كوريا الشمالية أو روسيا.
لم يكن تردد الصين في لعب دور الراعي لكوريا الشمالية بالأمر الجديد، فعندما زار الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني جيانغ تسه مين كوريا الشمالية في مارس (آذار) عام 1990، وعَده الأمين العام كيم إيل سونغ بأن “الشعب الكوري سيواصل بثبات رفع راية الثورة والاشتراكية ويقاتل جنباً إلى جنب مع الشعب الصيني في سبيل القضية المشتركة المتمثلة في بناء الاشتراكية”، وكان يأمل أن تقود الصين النضال في سبيل القضية الشيوعية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، بيد أن بكين التي لم تكن في عجلة من أمرها لرفع راية الاشتراكية السوفياتية الملقاة جانباً ترددت وركزت بدلاً من ذلك على الإصلاح الاقتصادي والسياسة الخارجية البراغماتية التي أُطلق عليها “تاوغوانغ يانغ هوي” (إخفاء القدرات وانتظار الوقت المناسب للتحرك).
ثم مضت الصين قدماً في إقامة علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية، وعلى رغم أن بكين لم تقطع علاقتها مع بيونغ يانغ فإن صلاتهما لم تتمكن أبداً من استعادة حميميتها خلال فترة الحرب الباردة الباكرة عندما قاتلت الدولتان معاً ضد الولايات المتحدة، ولم تعد الصين وكوريا الشمالية مرة أخرى “قريبتان قرب الشفاه والأسنان”، على حد تعبير الزعيم الصيني ماو تسي تونغ.
فشل في إرسال الإشارات
ربما يبحث القادة الصينيون عن دروس يستقونها من المرة الأخيرة التي واجهت فيها القوى العظمى بعضها بعضاً. لدى المؤرخين إجابات متضاربة بشأن سبب اندلاع الحرب الباردة: هل كان جوزيف ستالين يرغب فيها أم كانت حادثة مؤسفة؟ من المحتمل أن ستالين كان يسعى في الواقع إلى تسوية بين القوى العظمى بحيث تحترم موسكو وواشنطن مناطق النفوذ المشروعة لكل منهما، لكن المشكلات بدأت عندما اختلف الطرفان حول مدى امتداد النفوذ السوفياتي في أوروبا وآسيا، ورداً على ما اعتبرته تحركات عدائية من قبل موسكو، انتهجت واشنطن سياسة الاحتواء خشية أن تكون قد قللت من طموحات ستالين التوسعية.
تكمن معضلة بكين اليوم في أنها لا تعرف كيف تطمئن الولايات المتحدة بأنها لا تسعى إلى حرب باردة جديدة في وقت تستعد بالفعل لخوضها، فالتوسع النووي المستمر للصين وعمليات التجسس العدائية التي تنفذها وخطابها المتشدد، وقبل كل شيء دعمها لروسيا، كلها تشير إلى أن شي قد حسم خياره بالفعل وأن المواجهة مع الولايات المتحدة باتت حتمية.
إن علاقات الصين مع كل من روسيا وكوريا الشمالية تظل مفيدة لها في إطار صراعها ضد الهيمنة الغربية، ويفكر الإستراتيجيون الصينيون وفق مصطلحات جيوسياسية بسيطة تقول إن الولايات المتحدة، زعيمة الغرب، تحاول إسقاط الصين، فيما يواجه بوتين الغرب عبر حربه في أوكرانيا، وبالتالي فإن الرئيس الروسي يساعد الصين وليس من الممكن مهاجمته أو إلقاء اللوم عليه، وعلى نحو مماثل فلن تتخلى الصين تماماً عن كوريا الشمالية، ليس لأنها توافق على كيم، بل لأنه يظل أداة قيّمة ضد الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى فإن التورط المفرط في العلاقة مع روسيا المتشددة قد يضع بكين في مأزق، فقد أضر احتضان شي الأخوي لبوتين بمكانة الصين في أوروبا، إذ انتقدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك الصين في ديسمبر (كانون الأول) 2024 بسبب “معارضتها مصالحنا الأوروبية الأساس من خلال دعمها الاقتصادي والعسكري لروسيا”، كما ضغط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على شي في مايو 2024 للحد من دعمه لموسكو.
وبالنظر إلى أن حجم التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي والذي يبلغ 762 مليار دولار، وأصبح أكثر أهمية في ظل الركود الاقتصادي الذي تعانيه الصين، فيتعين على الإستراتيجيين في بكين أن يسألوا أنفسهم ما إذا كان الاستقطاب الاقتصادي الذي قد يصاحب حرباً باردة ناشئة يخدم مصلحة الصين حقاً.
أما وزير الخارجية الصيني وانغ يي فقد حرص خلال “مؤتمر ميونخ الأمني” في فبراير (شباط) 2025 على طمأنة القادة الأوروبيين بأن بكين لا تخطط للإطاحة بالنظام العالمي القائم.
ومع ذلك، ومثلما أظهرت تجارب القرنين الحالي والسابق، فإن العلاقات الاقتصادية لا تحول دون وقوع صراعات بين القوى العظمى، ولقد أظهرت مقامرة بوتين المتهورة في أوكرانيا استعداده للتضحية بالعلاقات الاقتصادية المربحة مع أوروبا طلباً للمجد، ولا يوجد أي دبلوماسي أو أكاديمي صيني، مهما كان على صلة بصناع القرار، ممن يستطيع التحدث بثقة عن نيات شي الذي قد يختار، كما فعل بوتين، المواجهة مع الغرب.
التصريحات ليست بلا ثمن
إحدى أهم الوسائل التي سيكشف بها شي جين بينغ عن نياته تجاه الغرب ستكون المسار الذي يختاره في شأن تايوان، فقد أعلن في رسالته للعام الجديد 2025 أنه “لا يمكن لأحد أن يقطع أواصر القربى بين [تايوان والبر الرئيس]، ولا يمكن لأحد أن يوقف إعادة توحيد الصين”.
وكما فعل أسلافه رفض شي التخلي عن خيار استخدام القوة لتحقيق الوحدة بين الصين وتايوان، لكن على عكسهم أضفى على تصريحاته إحساساً ملحاً وعاجلاً وكأنه قد اتخذ بالفعل قراره بغزو تايوان، وينتظر فقط الفرصة المناسبة لتنفيذه.
ومع ذلك من الممكن أن الرئيس شي لم يحسم قراره بعد وأنه يراقب رد الفعل الأميركي بينما ينتظر اللحظة المناسبة، وهنا أيضاً تنطبق دروس الحرب الباردة، فقد أخطأ ستالين في تقدير رد فعل واشنطن على الغزو الكوري الشمالي لكوريا الجنوبية عام 1950، ويرجع ذلك جزئياً لأنه استنتج بناء على معلومات استخباراتية جمعها من اعتراض البرقيات أن الولايات المتحدة لن تتدخل للدفاع عن كوريا الجنوبية، لكنه فشل في إدراك كيفية تطور التصورات والقرارات الأميركية استجابة للتحركات العدوانية لموسكو، وقد يخلص شي إلى استنتاج مشابه مفاده أن واشنطن ليست جادة في الدفاع عن تايوان ويتصرف بناء على ذلك، وكما أخطأ ستالين في حساباته فإن خطأ شي قد تكون له عواقب أكثر مأسوية على العالم.
وكما كانت حالات التصعيد خلال الحرب الباردة عرضية وتدرجية مع وجود لحظات من التوتر تتخللها جهود لتصحيح الأمور، فإن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين اليوم ليست عصية على الإصلاح حتى لو كانت قد مضت بعيداً من طريق المواجهة، وإذا لم تكن بكين راغبة في الانتقال من درس الحرب الباردة إلى خوض حرب باردة جديدة، فعليها ألا تتصرف كما لو أنها غير مهتمة بالحوار مع واشنطن.
والواقع أن نيكولاس بيرنز، وهو السفير الأميركي لدى الصين أيام إدارة بايدن، قد واجه عراقيل دبلوماسية ولم يكن قادراً على الوصول إلى صانعي السياسات في الصين إلا بصورة محدودة للغاية، كما تجاهلت الصين جهود الـ “بنتاغون” الرامية إلى الحفاظ على حوار بين عسكر البلدين، وعلى رغم أن وزير الدفاع السابق لويد أوستن التقى في النهاية نظيره الصيني دونغ جون في مايو 2024، لكن هذه الاتصالات ظلت متقطعة وقد يكون هذا التلكؤ وسيلة لإظهار الاستياء مما تعتبره الصين نهجاً أميركياً متشدداً، لكنه، سواء أكان مقصوداً أم لا، يرسل رسالة أخرى وهو أن بكين قد حسمت أمرها بالفعل في شأن الدخول في حرب باردة جديدة.
وبدلاً من التصعيد ينبغي على بكين أن تبلغ واشنطن، علناً أو من خلال قنوات خاصة، بأنها لا تخطط لغزو تايوان في المستقبل المنظور، ويجب عليها أن تخفف حدة الخطاب العام حول “إعادة التوحيد” الوشيك لتوفير الأساس لبناء الثقة التي توجد حاجة ماسة إليها، كما يتعين على بكين أن توضح أنها لا تسعى إلى إقامة تحالف مع موسكو، فقد أثار إعلان الشراكة “غير المحدودة” مع روسيا قلقاً كبيراً في الغرب من دون أن يحقق مكاسب حقيقية للصين، وهو تذكير بأن التصريحات الصينية في شأن العلاقة مع روسيا تؤثر بصورة مباشرة في تصورات التهديد الغربية، فصحيح أن حذف اللغة “المناهضة للهيمنة” من البيانات الصينية – الروسية لن يبدد بالكامل المخاوف الأميركية في شأن نشوء محور جديد، لكنه سيُضعف الأدلة الداعمة لهذه المخاوف.
والأمر الأكثر أهمية هو وجوب أن يشارك قادة الصين بصورة مباشرة في الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، فكونها المستورد الرئيس للنفط والغاز الروسي والمورّد الأساس للسلع الصناعية والاستهلاكية إلى روسيا، تمتلك الصين نفوذاً اقتصادياً كبيراً يمكنها استخدامه للضغط على بوتين من أجل قبول وقف إطلاق النار.
إن تجميد الصراع لن يتعارض مع مصلحة الصين في تجنب التصعيد في أوكرانيا بل سيسهم في استقرار علاقاتها مع أوروبا، وقد يشكل حتى نقطة تلاق مع إدارة ترمب التي ألمحت إلى اهتمامها بالتوصل إلى وقف إطلاق نار، بغض النظر عن تسوية شاملة للحرب. وبالنظر إلى تصريحات وانغ يي خلال “مؤتمر ميونخ” بأن “على جميع الأطراف وأصحاب المصلحة المشاركة، أثناء الوقت المناسب، في عملية محادثات السلام”، إضافة إلى نية ترمب إجراء مفاوضات مع روسيا، فإن اللحظة الحالية قد تكون مناسبة لتظهر الصين استعدادها لحوار مباشر وجاد مع الولايات المتحدة حيال الحرب في أوكرانيا.
التعلم من الماضي
عندما بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تتوتر عام 1945، كان الرئيس الأميركي هاري ترومان واثقاً من أنه سيتمكن من تحقيق أهدافه بـ 85 في المئة، بحجة أن “الاتحاد السوفياتي بحاجة إلينا أكثر مما نحن بحاجة إليه”، لكن الواقع كان أكثر تعقيداً، فخوفاً من أن تفسر واشنطن أية تنازلات سوفياتية على أنها علامة ضعف، وجه ستالين وزير خارجيته فياتشيسلاف مولوتوف بأن يكون “عنيداً بالكامل.”
واليوم لا تمتلك الولايات المتحدة احتكاراً نووياً كما كانت الحال بعد الحرب العالمية الثانية، وتواجه خصماً أقوى بكثير متمثلاً في الصين، مما يجعل تحقيق نسبة النجاح التي توقعها ترومان أمراً غير واقعي، ولذلك فإن الدبلوماسية النشطة تظل أفضل أمل لواشنطن للحد من الانزلاق نحو المواجهة مع بكين، وربما حتى عكس هذا المسار قبل فوات الأوان.
أولاً يتعين على الولايات المتحدة أن تضاعف جهودها لثني تايوان عن إعلان الاستقلال لأن ذلك سيكون خطوة تزعزع الاستقرار إلى حد كبير ومن شأنها أن تخلّف عواقب خطرة على شرق آسيا والعالم، ويمكن لواشنطن أن تجعل تعاملها الدبلوماسي مع قضية تايوان مرتبطاً بتوفر تأكيدات خاصة من الصين بأنها لن تغزو الجزيرة، وفي الوقت نفسه يتعين على الولايات المتحدة أن تخاطب الصين بصراحة وتوضح لها أن واشنطن ستكون مضطرة إلى الاستعداد لصراع حول تايوان إلا إذا أثبتت بكين من خلال تصريحات علنية وإجراءات ملموسة أنها لا تسعى إلى حرب باردة جديدة، وقد تشمل مثل هذه التدابير الرد بالمثل على دعوة ترمب إلى الحد من التسلح وتطوير الاتصالات العسكرية والامتناع من إجراء مناورات عسكرية استفزازية.
عندما كان هنري كيسنجر مستشاراً للأمن القومي ووزيراً للخارجية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، انتقد الديمقراطيين لتقديمهم المواعظ للاتحاد السوفياتي حول حقوق الإنسان، مدركاً أن مثل هذا الخطاب لم يكن إلا استفزازاً للسوفيات وأدى إلى تعقيد المفاوضات الدبلوماسية، ومع ذلك استطاع تحقيق انتصارات دبلوماسية كبيرة على موسكو، أبرزها التقارب مع الصين والتفوق على الكرملين في الشرق الأوسط، وعلى الولايات المتحدة اليوم أن تستلهم نهج كيسنجر في تعاملها مع الصين وأن تمتنع من إلقاء المحاضرات على بكين في شأن القيم الديمقراطية، إذ إن مثل هذه الخطابات تقلق القادة الصينيين ولا تحقق أي تحسن يذكر في أوضاع حقوق الإنسان داخل الصين، ويبدو أن ترمب بطبيعته يميل إلى تجنب هذا الموضوع إذ لم يستخدم يوماً لغة الخطاب الليبرالي الدولي التي تبناها أسلافه.
وينبغي لترمب أيضاً أن يعرض على الصين أن تلعب دوراً مباشراً في جلب روسيا إلى طاولة المفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ولدى بكين بالفعل مبعوث خاص للعلاقات مع روسيا وأوكرانيا، وهو السفير لي هوي، وقد أصدرت بالفعل بيانات تدعو إلى حل سلمي، ومن خلال دعوة بكين إلى المشاركة في المفاوضات يمكن لترمب اختبار حسن نيات الصين، وإذا جرى التوصل إلى اتفاق فمع ضمان أن يكون للصين مصلحة مباشرة في تنفيذه.
صادف شهر فبراير 2025 الماضي الذكرى الـ 75 لتوقيع “معاهدة التحالف الصينية – السوفياتية”، وعلى رغم أن ذلك التحالف بدا متيناً في حينه لكنه كان يعاني تناقضات داخلية أدت إلى انهياره بعد عقد واحد فقط، وسط تبادل الاتهامات بالخيانة، فلقد اختارت الصين في ذلك الوقت طريق التحديث والشراكة مع الغرب بدلاً من المواجهة، مما جنبها مصير الاتحاد السوفياتي، واليوم تعمل الصين وروسيا معاً مجدداً لكن علاقتهما ليست تحالفاً رسمياً، وهي بعيدة كل البعد من أن تكون “بلا حدود”، ومع تصاعد احتمال اندلاع حرب باردة جديدة لا تزال الصين مترددة في شأن ما إذا كانت تريد حقاً قيادة محور من الحلفاء المتصلبين وغير الموثوق بهم في مواجهة الولايات المتحدة، فمن مصلحة كلا البلدين استغلال هذا التردد لاستكشاف بدائل أخرى للعلاقات بينهما.