في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم نحو قطاع غزة بسبب المجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، تتصاعد على نحو موازٍ سياسة ممنهجة من التهجير القسري والهدم في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية المحتلة، لتؤكد إسرائيل من جديد أن مشروعها الاستيطاني لا يعرف هدنة، وأن حربها ضد الوجود الفلسطيني ليست استثناءً ظرفياً في غزة، بل امتداداً لعقيدة استعمارية تتغلغل في كل أرجاء الأراضي الفلسطينية.
ما يجري في مخيم طولكرم ونور شمس، وبلدة إذنا بالخليل، وغيرهما من المناطق، ليس مجرد حملة أمنية عابرة أو تطبيق لقوانين بناء صارمة، بل هو تجلٍّ صارخ لسياسة اقتلاع منظمة تستهدف بنية المجتمع الفلسطيني، وتعيد إنتاج نكبة 1948 بأدوات أكثر تعقيداً وجرأة. فأن تُجبر عشرات العائلات على إخلاء منازلها في طولكرم تحت تهديد الجرافات، وأن يتلقى سكان الخليل إخطارات بالهدم بذريعة البناء دون ترخيص، بينما لا يجد الفلسطينيون سبيلاً قانونياً للحصول على هذا الترخيص أصلاً، هو وصف دقيق لواقع احتلال يسيطر على الأرض والقانون معاً، ويعيد توظيف مؤسساته لخدمة المشروع الاستيطاني.
أرقام مفزعة
أرقام الهدم والتهجير مفزعة. فمخطط هدم 104 مبانٍ في مخيم طولكرم – تم تجميده مؤقتاً فقط بفعل التماس قانوني – يأتي بعد سلسلة هدم سابقة أزالت أكثر من 90 بناية تضم 350 شقة سكنية، ويتبعها اليوم تهديد مباشر بإزالة 400 شقة إضافية. أما في مخيم نور شمس، فقد هدمت قوات الاحتلال أكثر من 250 بناية تضم 800 شقة، وهجرت أكثر من 22 ألف فلسطيني، في مشهد لا يختلف عن سياسات التطهير العرقي التي شهدتها البوسنة أو رواندا، ولكن هذه المرة تتم تحت صمت دولي شبه كامل.
في قرية سالم شرق نابلس، تتجلى صورة أخرى من العدوان، حيث تحول اقتحام منزل إلى مجزرة وانتهاك صارخ للسيادة الفردية والحق في الحياة. تكرار هذه العمليات العسكرية التي تتحول إلى عمليات اغتيال في المنازل، بالتوازي مع محاصرة القرى والبلدات، يعزز الشعور العام لدى الفلسطينيين بأن لا مكان آمناً في وطنهم، وأن الحق في السكن بات في حد ذاته هدفاً ميدانياً للجيش الإسرائيلي.
هذه الممارسات تتزامن مع طفرة استيطانية غير مسبوقة، حيث ارتفع عدد المستوطنات في الضفة الغربية من 128 إلى 178 مستوطنة منذ وصول حكومة نتنياهو الحالية إلى السلطة، وفق تقرير القناة 12 الإسرائيلية. هذا التوسع، الذي بلغ أكثر من 40% في فترة قصيرة، لا يحدث بمعزل عن عمليات الهدم والإخلاء، بل يتم فوق أنقاض البيوت المهدومة والمجتمعات المطرودة. فالهدم هنا ليس فعلاً أمنياً، بل تمهيد لاستبدال السكان الفلسطينيين بمستوطنين جدد، في تكريس لمعادلة “الأرض مقابل الطرد”.
المشروع الصهيوني
التحليل القانوني والحقوقي لهذه السياسات يصنفها ضمن جرائم الحرب وفق القانون الدولي، لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل القسري للسكان في الأراضي المحتلة. كما أن قرارات محكمة العدل الدولية بشأن وقف التهجير في غزة تنسحب من حيث المبدأ على الضفة، ما دام الهدف واحداً: إضعاف الوجود الفلسطيني وتفكيكه.
الرسالة التي تبعثها إسرائيل من خلال هذه السياسات المتوازية في غزة والضفة هي أن المشروع الصهيوني لا يزال يضع هدف السيطرة الكاملة على الأرض الفلسطينية كأولوية قصوى، حتى ولو جاء ذلك على حساب الإنسان، أو بخرق كل المواثيق الدولية. وبينما تحاول المحكمة العليا الإسرائيلية أن توهم الداخل والخارج بوجود توازن قانوني، فإن قراراتها بوقف الهدم لا تتعدى كونها تجميداً مؤقتاً، تُنقض لاحقاً أو تُتجاوز عبر الالتفاف الإداري.
أما الأثر النفسي والاجتماعي لهذه السياسات، فلا يقل كارثية. فالتهجير القسري المتكرر يضعف النسيج الاجتماعي، ويجعل العائلة الفلسطينية في حالة طوارئ دائمة، لا تدري متى تفقد بيتها أو تُعتقل عشوائياً أو تُحاصر ليلاً. وهو ما يخلق جيلاً جديداً من الفلسطينيين لا يعرف الطمأنينة ولا يتذوق الاستقرار، لكنه في المقابل أكثر وعياً بطبيعة المشروع الذي يواجهه، وأكثر إصراراً على البقاء.
إخلاء جماعي وهدم ممنهج
إن ما يجري في الضفة الغربية من أوامر إخلاء جماعية وهدم ممنهج ليس مجرد ملف إنساني، بل هو فصل أساسي في كتاب الاحتلال، لا يمكن فصله عن المجازر في غزة، ولا عن الحصار في القدس، ولا عن عسف القانون في الداخل الفلسطيني. إنها سياسة إحلال مدروسة، تُنفذ بالجرافات والقرارات القضائية، تحت غطاء صمت دولي وتحالفات سياسية تحمي إسرائيل من المساءلة.
والفلسطيني، في طولكرم ونابلس والخليل، كما في غزة، لا يواجه جيشاً فقط، بل منظومة متكاملة من الإقصاء، لكنه في المقابل لا يزال يتمسك بالمكان، وبالحق، وبالبيت الذي أصبح عنواناً لصراع وجود لا يحتمل الحياد.