في تطور خطير وغير مسبوق، أقرّ الجيش الإسرائيلي علناً بأن العمليات العسكرية التي يشنها منذ أشهر في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس تهدف إلى “إعادة تشكيل” هذه المناطق، ما يعني فعلياً تنفيذ مشروع هندسة ديمغرافية وتغيير جغرافي يُنهي ما تبقى من طابعها كمخيمات لجوء. هذا التصريح، الذي جاء على لسان متحدث باسم الجيش، يفتح الباب واسعاً أمام قراءات تتجاوز الاعتبارات الأمنية التقليدية، ليكشف عن أهداف استراتيجية تتصل بنسف الرمزية الوطنية والسياسية للمخيمات، باعتبارها إحدى أعمدة الرواية الفلسطينية وحق العودة.
تدمير مئات المنازل
العمليات التي بدأت قبل نحو ستة أشهر، وأسفرت عن تدمير مئات المنازل وتشريد ما يقارب 40 ألف فلسطيني، تُنذر بتحول جذري في سياسة الاحتلال تجاه الضفة الغربية. فالمخيمات التي كانت تمثل معقلاً للمقاومة ومخزوناً اجتماعياً للهوية الوطنية، تتحول اليوم إلى ساحات مفرغة من سكانها، مفتوحة أمام دبابات الاحتلال وجرافاته. هذا التوجه لا يبدو عشوائياً أو مؤقتاً، بل جزء من خطة منهجية بدأت تُنفذ دون خجل، رغم قرارات قضائية إسرائيلية بتجميد بعض عمليات الهدم، ما يضع السلطة القضائية ذاتها أمام اختبار حقيقي لجدوى وجودها.
الزيارات الرسمية، مثل تلك التي قام بها المنسق الأميركي للشؤون الأمنية مايكل آر فينزل إلى مخيم نور شمس، تحمل مؤشرات إلى إدراك دولي أولي لحجم المأساة، لكنها لا ترقى بعد إلى ضغط فعلي على حكومة الاحتلال لوقف انتهاكاتها. تصريحات محافظ طولكرم عبد الله كميل التي أعقبت الزيارة أظهرت بوضوح حجم الدمار وعمق المعاناة، مقابل اقتراحات أميركية تتحدث عن “بداية الإعمار” وكأن الحرب وضعت أوزارها، بينما تهديدات الاحتلال بقصف أي مبنى يُعاد بناؤه لا تزال قائمة.
تفكيك الجغرافيا الفلسطينية
ما يُعزز خطورة المشهد أن عمليات الهدم في جنين وطولكرم ونور شمس تتم في ظل مناخ سياسي داخلي في إسرائيل يميل نحو التطرف، تغذيه شخصيات مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي يطرح علناً أفكاراً تتعلق بترحيل الفلسطينيين وتفكيك وجودهم الجغرافي. وهذا يعكس أن التهجير القسري لم يعد سياسة غير معلنة، بل تحوّل إلى استراتيجية يتم التمهيد لها عبر الميدان، من خلال تدمير البنى التحتية، ومنع العودة، والتضييق على ما تبقى من السكان.
من زاوية أخرى، فإن الربط بين ما يجري في الضفة الغربية وما يحدث في غزة لم يعد مجرد تحليل سياسي بل صار واقعاً ميدانياً. العدوان الشامل على غزة الذي خلف أكثر من 194 ألف شهيد وجريح، يتزامن مع حملة تهجير وهدم وتنكيل ممنهجة في الضفة، ضمن سياسة إسرائيلية موحدة تسعى لتفكيك الجغرافيا الفلسطينية، وتفريغها من سكانها، وتحطيم مراكز قوتها الاجتماعية والرمزية.
مشروع محو الهوية الفلسطينية
التحليل السياسي لما يجري يقود إلى نتيجة مركزية: إسرائيل لا تنفذ حملة أمنية، بل تخوض معركة وجود ضد فكرة المخيم، وضد الرواية الفلسطينية، وضد الذاكرة الجماعية لشعب لا يزال يتمسك بحقه في الأرض والعودة. ومع استمرار هذا المسار دون رادع دولي فعّال، فإن مشروع محو الهوية الفلسطينية في الضفة يتحول من خطر محتمل إلى واقع يتشكل على الأرض، يوماً بعد يوم، تحت أنظار العالم.