تتصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس المحتلة بوتيرة لافتة، بالتزامن مع استمرار المجازر اليومية في قطاع غزة، في ما يبدو أنه تنفيذ عملي لسياسة توسعية متكاملة تستهدف الإجهاز على كل أشكال الوجود الفلسطيني، جغرافياً وبشرياً وثقافياً. وتأتي هذه الاعتداءات في سياق متصل، لا على هامش العدوان، بل كجزء لا يتجزأ من أهدافه الاستراتيجية العميقة، حيث يشكل المسجد الأقصى والبلدة القديمة في القدس قلب الصراع الرمزي والعقائدي على “الهوية والسيادة”، بينما تمثل مناطق الضفة ساحة ميدانية لتكريس الضم الزاحف ومشروع التهجير القسري المستتر خلف آلة القمع اليومي.
فرض واقع جديد
اقتحامات المسجد الأقصى، التي تتكرر بشكل يومي تقريبًا بحماية قوات الاحتلال، لم تعد مجرد مظاهر استفزازية من قبل المستوطنين المتطرفين، بل هي رسائل سياسية واضحة تعكس نية إسرائيل قلب الوضع القائم في الحرم الشريف، وفرض واقع جديد عنوانه: “أسرلة المكان”. فالطقوس التلمودية التي يؤديها المستوطنون في باحات الأقصى، تحت حماية الشرطة والجيش، ليست تصرفات فردية أو طقوساً دينية محضة، بل هي خطوات متدرجة في مخطط السيطرة الدينية والسياسية على ثالث أقدس المقدسات الإسلامية، تمهيدًا – على المدى المتوسط – لتقاسم زماني ومكاني، وربما في النهاية لإقامة الهيكل المزعوم.
ويكتسب هذا المخطط خطورته من تزامنه مع تصعيد غير مسبوق في القمع والاعتقالات بالضفة الغربية، حيث طالت المداهمات عشرات المدن والقرى والمخيمات، من جنين ونابلس إلى الخليل وبيت لحم ورام الله. وتستهدف هذه الحملات – كما يظهر من أنماط التنفيذ – ترويع السكان، وتفكيك البنية المجتمعية، وضرب الرموز الإعلامية والثقافية كما حدث في اعتقال الصحفي المعروف ناصر اللحام، رئيس تحرير شبكة “معا”، وهو ما يعكس بوضوح رغبة الاحتلال في إسكات الصوت الفلسطيني وتغييب روايته.
تصاعد الهجمات الاستيطانية
كما أن الاعتقال المتكرر لذوي المقاومين، بمن فيهم زوجات وأمهات وأطفال، يعكس سياسة انتقام جماعي تهدف إلى تحطيم الإرادة الشعبية، وبث رسالة ردع لكل من يفكر بالانخراط في أي شكل من أشكال المقاومة، حتى ولو بالكلمة.
أما على المستوى الميداني، فالهدم المنهجي للمنازل والمنشآت – كما حدث في قرية خربثا المصباح بهدم بناية سكنية تأوي خمسين شخصًا – يكشف عن هدف استيطاني جوهري، يتمثل في تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وتوسيع رقعة السيطرة الجغرافية للمستوطنات التي باتت تتغلغل في عمق الضفة الغربية والقدس الشرقية على نحو غير مسبوق منذ توقيع اتفاقيات أوسلو.
كل هذه السياسات – اقتحامات الأقصى، المداهمات والاعتقالات، هدم المنازل، تصاعد الهجمات الاستيطانية – لا يمكن فصلها عن الهدف الاستراتيجي الأبعد: فرض واقع جديد على الأرض يجعل من حل الدولتين مستحيلاً، ويحوّل الفلسطينيين إلى مجرد جزر سكانية محاصرة داخل كانتونات محاطة بالمستوطنات والحواجز.
وفي الوقت ذاته، فإن هذا التصعيد يندرج ضمن حسابات إسرائيلية داخلية أيضاً، فمع ازدياد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية من اليمين المتطرف، تسعى القيادة السياسية إلى تصدير صورة السيطرة والهيمنة، عبر تكثيف اقتحامات الأقصى، وتوسيع الاستيطان، وتصعيد القمع في الضفة، خاصة في ظل اتهامات متزايدة بالفشل العسكري في غزة.
ضرب الوعي والرمز والهوية
من جهة أخرى، فإن سياسة الاحتلال لا تستهدف الأرض فقط، بل تسعى أيضًا إلى ضرب الوعي والرمز والهوية. المسجد الأقصى ليس مجرد موقع ديني، بل يمثل في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي رمزًا للهوية والانتماء، واستهدافه المتواصل ليس فقط انتهاكًا دينيًا، بل محاولة منهجية لمحو رواية الشعب الفلسطيني واستبدالها برواية استعمارية تفرض نفسها بالقوة العسكرية.
ما يجري في الضفة الغربية والقدس ليس مجرد سلسلة من الأحداث المعزولة، بل حلقة مكملة لحرب شاملة تُخاض على الشعب الفلسطيني بأبعاده الثلاثة: الجغرافية (الضم)، والسكانية (التهجير)، والثقافية (الطمس الرمزي والديني). وهو ما يعني أن المواجهة، وإن بدت عسكرية وأمنية في ظاهرها، إلا أنها في جوهرها مواجهة على الوجود والهوية والسيادة التاريخية، وهي الأشد خطورة منذ النكبة الأولى عام 1948.