كنا نعتقد أن الرئيس الأميركي «ترامب» أجبرَ دولة الاحتلال على وقف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة، لأنه لا يريد أن يدفع أموالاً لها لا تعود بمال أكثر على الخزينة الأميركية، لكننا لم نعتقد أن الرجل يريد الاستيلاء على غزة بعد تهجير أصحابها لتحويلها لمنتجعات سياحية للشركات الأميركية، وربما له ولزوج ابنته «جاريد كوشنار» لإدخال الأموال لجيوبهم.
لم يخطر على بالنا بالطبع أن الرجل لديه إحساس بالشفقة على من يتعرضون للقتل بشكل يومي على أيدي «صِبيانه» في دولة الاحتلال عندما أَمرهم بوقف الحرب، لكننا اعتقدنا بأن الرجل لديه مشاريع أكبر للمنطقة يريد التركيز عليها ولا يريد لهذه الحرب أن تُعيقها.
مشروع ترامب أو ما يُمكن تَسميته «وعد بلفور الثاني»، لأنه يَعد دولة الاحتلال بالتخلص من 2.3 مليون فلسطيني، ينسف كل اتفاق وقف إطلاق النار لأن المقاومة لا مصلحة لها بعد الآن في استكماله طالما أن نهايته ليست الوقف الدائم للقتال وانسحاب الاحتلال من غزة، وإنما تهجير الفلسطينيين منها وتصفية المقاومة فيها.
علينا ان نلاحظ أيضاً، أن ترامب هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي يستهدف بشكل مباشر ركائز القضية الفلسطينية الأربع ويعمل على تصفيتها. إنه يستهدف الأرض، والقدس الشرقية، واللاجئين، والدولة الفلسطينية.
.
لا يوجد رئيس أميركي سابق شرعن سياسة دولة الاحتلال بالاستيطان، أما هو فقد فعلها في ولايته الأولى عندما قال بأن المستوطنات في الضفة الغربية شرعية، وسمح لدولة الاحتلال في خطته المعروفة باسم «صفقة القرن» بضم 30% من مساحتها.
ولا يوجد رئيس أميركي سابق أَقر بأن القدس الشرقية هي جزء من دولة الاحتلال، أما هو فقد فعل عندما اعترف بها عاصمة لهم، وأغلق القنصلية الأميركية فيها.
ومن سبقه لم يحاول تصفية قضية اللاجئين، أما هو فقد فعل ويفعل من خلال الانسحاب من «الأونروا» كمؤسسة أممية تهتم باللاجئين الفلسطينيين وتحافظ على حقوقهم، ومن خلال وقف تمويلها.
وهو لا يُقر بضرورة قيام دولة فلسطينية كأساس لنهاية الصراع مع دولة الاحتلال وفق القانون الدولي، ويريد أكثر من ذلك، توسيع حدود دولة الاحتلال لتشمل أراضي عربية جديدة.
ترامب هو أكثر عدائية للشعب الفلسطيني من بن غفير وسموتريتش، وهو أكثر تطرفاً وأخطر منهما على المشروع الوطني الفلسطيني.
لكن مشروعه في تصفية القضية الفلسطينية والذي ينطلق من تفكير عنصري فوقي مُتأصل في شخصه يُمكن إفشاله، والطريق لذلك واضح لكنه يتطلب القليل من الإرادة السياسية.
فلسطينياً، لا خيار أمامنا غير الوحدة الوطنية من خلال تحويل منظمة التحرير الفلسطينية الى مؤسسة جامعة لكل أطياف ومكونات الشعب الفلسطيني، على قاعدة أن أهداف الشعب الفلسطيني تتمثل في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على جميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام 1967 وفي مقدمتها القدس الشرقية، وعلى قاعدة حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة لأرضهم وفق القانون الدولي، وعلى قاعدة أن تحقيق هذه الأهداف يتم من خلال الوسائل التي أقرها وأجازها المجتمع الدولي والمقاومة بأشكالها المتعددة جزء أصيل من هذه الوسائل.
إن إنهاء الانقسام الفلسطيني، الذي تأخر طويلا، هو شرط لا غنى عنه لإفشال المشروع الأميركي، فالمستهدف ليس المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، بل ركائز القضية الفلسطينية نفسها، ويكفي التذكير هنا بأن أميركا وإسرائيل لا يعترفان بالسلطة الفلسطينية شريكة لهما، فهما يريدان تحويلها لأداة تابعة بالمطلق لهما، ويريدان تجريدها من مشروعها الوطني.
كُنا سابقا قد دعونا الى تحويل السلطة الفلسطينية الى «بلدية كبيرة» تهتم بتقديم الخدمات للشعب الفلسطيني من تعليم وصحة وتنظيم للبناء والحياة اليومية، ودعونا لنقل كل ما له علاقة بالصراع مع دولة الاحتلال لمنظمة التحرير، وهذا الموضوع أصبح مُلحا وضرورة لإخراج السلطة من الضغوط التي تتعرض لها مثل التنسيق الأمني ومعاداة فصائل المقاومة، ووضع القيود على نشاطها السياسي.
إن توحيد الشعب الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية سيفتح الباب واسعاً لإشراك الكل الفلسطيني في المهجر في مشروع مقاومة الاحتلال، فالضفة وغزة لا يُمكنهما لوحدهما مواجهة المؤامرة التي تستهدف القضية الفلسطينية. هنالك ضرورة لتنظيم الفلسطينيين في الخارج للقيام بالضغط على الحكومات الغربية لمقاطعة إسرائيل ومعاقبتها وحشد الأصدقاء والحلفاء لدعم القضية الفلسطينية.
إن ذلك ممكن فقط عبر التنظيمات والمؤسسات الشعبية التي يُمكنها التواصل مع الشارع والمؤسسات في الغرب، وهذه المسألة أصبحت أسهل كثيرا الآن بعد إن اكتشف العالم طبيعة دولة الاحتلال الاجرامية بعد حرب الإبادة التي قام ويقوم بها في غزة.
وعلى الصعيد العربي فإن منظمة التحرير الفلسطينية مَدعوة لمطالبة الدول العربية لاتخاذ مواقف حازمة ليس فقط من المشروع الأميركي ولكن من دولة الاحتلال أيضا.
إذا لم يكن هنالك ثمن تدفعه دولة الاحتلال والولايات المتحدة، فإن سلوكهما لن يتغير مطلقا. إن ما تقوم به دولة الاحتلال من جرائم بحق الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري واليمني، بدعم أميركي، نابع من حقيقة واحدة وهي الاطمئنان الى أنهما مهما فعلا فإن «العرب» لن يقوموا بفعل مضاد لهما.
آن لكل ذلك أن ينتهي وعلى العرب أن يتحملوا مسئولياتهم.
نحن نشكرهم على عدم قبولهم بتهجير الشعب الفلسطيني الى بلدانهم، لكن ذلك كمن يشكر «السويد واسبانيا وإيرلندا» على عدم المشاركة في إنهاء القضية الفلسطينية لصالح الاحتلال. العرب مطلوب منهم أكثر من ذلك ليس فقط من باب الهوية العربية والإسلامية المشتركة، ولكن من أجل حماية أمنهم القومي.
اقرأ أيضا.. من وعد بلفور الى وعد ترامب.. ما مصير الفلسطينيين؟
العرب عليهم أن ينهوا علاقاتهم مع إسرائيل وأن يغلقوا سفاراتها في بلادهم، وأن يسمحوا للملايين في بلدانهم النزول للشارع للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، وعليهم أن يتمسكوا بمبادرتهم العربية التي أقروها العام 2002 بأن التطبيع مع دولة الاحتلال لن يتم قبل نهاية الاحتلال.
يمتلك العرب أدوات كثيرة جدا للضغط على الولايات المتحدة ودولة الاحتلال وهم قادرون على استخدامها إن أرادوا: يمكنهم وقف الاستثمار في الاقتصاد الأميركي، إغلاق القواعد العسكرية الأميركية في بلادهم، بناء لوبيات ضاغطة في أميركا وأوروبا لدعم مصالحهم ومصالح الشعب الفلسطيني، ويمكنهم تغير تحالفاتهم الدولية فأميركا ليست قدراً لا رادّ له.
إن الطريق لإفشال وعد «بلفور الثاني» واضح، وكل ما يلزم هو القليل من الإرادة الفلسطينية والعربية، وقد آن أوانهما.