في قلب مدينة خان يونس، يقف الدكتور عاطف الحوت، مدير عام مجمع ناصر الطبي، وكأنّه حارس على حافة الهاوية. داخل هذا المستشفى – وهو ما تبقى من بنية صحية تُحتضر – تحوّلت الممرات إلى أماكن علاج، وغرف الأطباء إلى أسرّة إسعاف. “نحن على بُعد خطوة واحدة فقط من الانهيار”، يقولها بنبرة لا تخلو من رجفة، بينما يحدّق في تقارير الوقود المتبقي وكشوفات الأدوية التي باتت كلها تقريبًا تحمل خانة: “صفر”.
سباق بين الموت والحياة
داخل قسم العناية المركزة، يقف الحوت أمام غرفة تتسع لـ12 سريرًا فقط، لكنها تضم 41 جريحًا ومريضًا. لا مجال للراحة. لا صوت يعلو على صوت الأجهزة التي تعمل بنبض اصطناعي. وحين يُسأل: “كيف تديرون كل هذا؟”، يرد: “بأعصابنا، وبصبر لا نعلم من أين يأتينا، لكننا نعلم أن أرواحًا تنتظرنا… ولا خيار لدينا سوى أن نحاول”.
على بُعد أمتار، في قسم العمليات، تقف الطبيبة الشابة سارة (28 عامًا) خلف كمّامتها المشبعة بالعرق والدموع. منذ خمسة أيام لم تغادر المستشفى. تقول بصوت خافت بينما تضغط على جرح في صدر شاب لم يتجاوز الـ18: “إنه أخي في الإنسانية… قد يكون أخي فعلًا، فأنا لا أعرف من يدخل إلينا ومن نُسعف. كلهم أهلنا”. في الليالي، تُطفأ أنوار بعض الأقسام توفيرًا للوقود، وتُجرى العمليات الطارئة فقط، في سباق مستمر بين الموت والحياة، غالبًا يميل الكف للجهة الأولى.
الأطفال المرضى بين الحياة والموت
في المستشفى الميداني المجاور، والذي بات أشبه بخيمة من الألم، يقف الدكتور مروان الهمص وسط ازدحام الجرحى والمرضى، وهو يشرح أن مجمع ناصر أصبح يتحمل أضعاف طاقته الاستيعابية، بينما توقفت مستشفيات أخرى كالأمل عن الخدمة بسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية. يقول وهو يحدق في حاويات الوقود الفارغة: “نعمل بالخوف، بالخطر، بالجوع… كل دقيقة تمر دون وقود قد تكلّفنا عشرات الأرواح”.
في إحدى زوايا المجمع، تبكي أمّ وهي تحتضن طفلتها المصابة بسوء تغذية حاد. كانت تأمل أن تحصل على جلسة غسيل كلى، لكن الأجهزة لا تعمل إلا بشكل متقطع. تقول الطبيبة نادين، وهي تمسح دموع الأم: “نحن نمسك الحياة بخيوط واهية. لدينا أطفال يفقدون حياتهم لأن آلة غسيل الكلى لا تعمل إلا ساعتين في اليوم. هذا جنون، لكنه واقعنا”.
طبيب التخدير فادي يتحدث بعينين غائرتين من السهر: “نستخدم الآن بدائل بدائية. نخلط بين أنواع أدوية لنعوّض النقص. ما نفعله ليس طبًّا، إنه أشبه بمحاولة إنقاذ من الطين، دون حبل، دون نور”.
لا تتركوا غزة تموت
وفد منظمة الصحة العالمية، بعد جولة سريعة، وقف مذهولًا أمام هذا الواقع، لكن الأطباء لم يلتفتوا كثيرًا. “لا وقت لنا للصدمة”، يقول الدكتور الحوت. “لدينا أطفال ينزفون، وأدوية لا تكفي، وطاقم يعمل ليلًا ونهارًا، وكل ما نطلبه: لا تتركوا غزة تموت”.
الحرب لم تُبقِ على شيء، سوى بقايا إنسانية تقاوم في مجمع ناصر ومستشفى الأمل. اثنان فقط يخدمان ما يقارب 700 ألف إنسان. إذا سقطا، فلن يسقط فقط مبنيان طبيان، بل ستسقط آخر بقعة أمل في جنوب غزة وحينها، لن يكون الموت قادمًا، بل سيكون قد أقام مستشفى دائمًا في كل بيت.