لطالما مثّلت العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والصين نموذجًا دقيقًا لمعادلة توازن صعب بين الشراكة والمنافسة والتوجس. فعلى الرغم من أن المفوضية الأوروبية وصفت الصين في استراتيجيتها لعام 2019 بثلاثية متناقضة – “شريك استراتيجي”، “منافس اقتصادي”، و”منافس نظامي” – إلا أن الوقائع التي تلت ذلك البيان أثبتت أن جانب التنافس والريبة بات يطغى على أي مساحة ممكنة للتعاون البنّاء، لا سيما مع تعمق الأزمات الدولية وتباين المواقف بشأنها.
الأزمة التي فجّرتها جائحة كوفيد-19 كانت أول اختبار جدي للمزاعم الأوروبية حول “الشراكة الاستراتيجية”. فالاتهامات المبطنة – والمباشرة أحيانًا – التي وُجّهت إلى بكين حول التستر على المعلومات المتعلقة بأصل الفيروس، أحدثت شرخًا في الثقة. ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد منسوب التوتر بشكل غير مسبوق، خصوصًا مع وقوف الصين موقفًا غامضًا منحازًا لروسيا، لا سيما عبر الامتناع عن الإدانة الصريحة للغزو، والتعاون الاقتصادي العميق مع موسكو الذي خفف من وطأة العقوبات الغربية.
في ظل هذه الأجواء الملبدة، يبرز تطور جديد قد يُعيد خلط الأوراق: عودة دونالد ترمب المحتملة إلى البيت الأبيض. فالرئيس الأميركي السابق – والمقبل المحتمل – لم يخفِ عداءه لا للصين ولا لأوروبا. بل إنه، خلال ولايته السابقة، أعاد تعريف العلاقات التجارية مع الحلفاء والخصوم على حد سواء بلغة الجمارك والعقوبات والضغط الاقتصادي، مما شكّل تهديدًا مباشرًا للاتحاد الأوروبي، الذي اعتاد على مظلة الحماية الأميركية ما بعد الحرب العالمية الثانية. اليوم، ومع تصاعد خطاب “أمريكا أولًا” مجددًا، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام خيارين كلاهما مرّ: إما التكيف مع إدارة أميركية متقلبة تهدد المصالح الأوروبية، أو البحث عن تقاربات ظرفية مع قوى أخرى، أبرزها الصين.
غير أن هذا الخيار الثاني لا يبدو مضمونًا. فبكين لا تنظر إلى الاتحاد الأوروبي ككتلة صلبة، بل كوحدة منقسمة، مشتتة المصالح والاستراتيجيات. وتستغل الصين هذا الضعف البنيوي لإرسال إشارات محسوبة – كرفع بعض العقوبات عن أعضاء البرلمان الأوروبي – دون تقديم تنازلات فعلية. التعيين الأخير للو شايي، السفير السابق لدى فرنسا المعروف بخطابه الحاد الذي يجسد “دبلوماسية الذئب”، كمبعوث خاص للعلاقات مع أوروبا، ليس سوى ترجمة لهذه المقاربة الصينية: هجوم ناعم مموّه بنوايا دبلوماسية.
في المقابل، تدرك بروكسل حجم المأزق. فهي لا تستطيع الوثوق ببكين، كما أن خياراتها في الضغط عليها محدودة. وأكثر ما يؤرق العواصم الأوروبية هو التحالف المتين الذي راكمته الصين مع روسيا، والذي تجلى بوضوح في زيارة الرئيس شي جين بينغ لموسكو للمشاركة في العرض العسكري ليوم النصر. هذا الحضور ليس مجرد مجاملة سياسية، بل هو دعم رمزي لنهج بوتين ومغامرته العسكرية في أوكرانيا، وهي مغامرة تعتبرها بروكسل تهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي.
التصريحات الصادرة عن مسؤولين كبار في الاتحاد الأوروبي تعبّر عن هذا التململ بوضوح. فقد أكدت الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كايا كالاس، أن الصين أصبحت عاملًا محوريًا في استمرار الحرب الروسية، ما يعني أن أي تقارب معها دون مراجعة جذرية لسلوكها الجيوسياسي سيكون بمثابة استسلام أوروبي لمعادلة القوة التي تفرضها بكين.
وعليه، فإن الحديث عن “إعادة ضبط” للعلاقات الصينية الأوروبية يبدو في هذه المرحلة أقرب إلى المناورة السياسية منه إلى تحوّل حقيقي في المسار. الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى سياسة موحدة تجاه الصين، وهو واقع يدفع بكين إلى اختبار حدود هذا الضعف. وفي الوقت ذاته، فإن أي محاولة أوروبية للارتماء في أحضان الصين كرد فعل على العداء الأميركي ستكون مقامرة استراتيجية محفوفة بالمخاطر، خاصة في ظل اصطفاف الصين الواضح ضمن المحور المناهض للغرب.
إن التوترات الحالية ليست مجرد نتيجة لاختلافات في السياسات أو المصالح، بل تعكس صراعًا عميقًا على نماذج الحكم والقيم. أوروبا – رغم انقسامها – تظل متشبثة بمنظومة حقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية، فيما تروج الصين لنموذجها السلطوي كبديل أكثر فاعلية واستقرارًا. هذا التناقض الجوهري يضع سقفًا زجاجيًا لأي تقارب فعلي بين الجانبين، مهما بلغت الضغوط الأميركية أو تزايدت دواعي البراغماتية.
في النهاية، يبدو أن أوروبا محاصَرة بين مطرقة الصين وسندان ترمب. وقد يكون من مصلحتها، بدلًا من البحث عن تحالفات جديدة غير مضمونة، أن تعيد بناء وحدتها الداخلية وتعزيز استراتيجيات الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والتكنولوجي، لتصبح طرفًا قادرًا على المناورة لا مجرد مفعول به في لعبة الأمم.