ليس الجوع هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لشعبٍ منكوب. الأسوأ هو أن يتحول هذا الجوع إلى سوقٍ للمتاجرة في ظلّ غياب الدولة، ووسط فوضى أمنية تتربص بكل ما تبقّى من مظاهر الحياة. في غزة، لا تكفي الغارات ولا الحصار ولا الانقسام كي تصف مأساة إنسانية بهذا الحجم، إذ لا يزال الفلسطينيون في القطاع يعيشون على حافة المجاعة في وقتٍ تسلك فيه المعونات الإنسانية طريقًا شائكا لا تضمنه القوافل، ولا تحميه البنادق، بل تراقبه أعين العصابات الخارجة عن كل سلطة.
منذ أن تفكّكت البنية السلطوية لحركة حماس بعد الضربات الإسرائيلية المتكررة التي شلت الوزارات والبنى الإدارية، برزت إلى السطح جماعات مسلحة وتشكيلات إجرامية لا علاقة لها بالمقاومة ولا بالقضية، هذه الجماعات وجدت في المساعدات القادمة من المعابر منفذا للثراء والابتزاز، حيث تقوم بنهب شاحنات المساعدت، ثم تعيد بيع ما فيها بأسعار خيالية للفقراء أنفسهم الذين يفترض أن يكونوا مستفيديها.
ولأن الحاجة أم الفوضى، عادت العشائر وحضرت الأحكام العُرفية ، لم يكن مستغربًا أن تعلن القبائل والعائلات الكبيرة عن إعادة تفعيل “المحاكم الثورية”، بما تعنيه الكلمة من إعدامات فورية في الشوارع لكل من تُثبت مشاركته في سرقة الغذاء أو قطع طرق المساعدات.
لكن وسط هذه الفوضى لا يمكن إغفال مسؤولية “حماس” ذاتها التي لم تكن دومًا ضحية لهذا الانهيار بل طرفًا في استدامته، فبدل أن تفتح الأبواب لمبادرات وطنية واسعة تحمي ما تبقى من النسيج المجتمعي، اختارت الحركة أن تُمارس قمعًا ممنهجًا ضد كل صوتٍ معارض. أُخمدت أصوات المحتجين على سوء توزيع المعونات، وتعرّض الناشطون المدنيون الذين طالبوا بالشفافية والمساءلة لحملات اعتقال وملاحقة. ..لم تفرق “حماس” بين العصابات الخارجة عن القانون وبين العائلات التي تطالب بحقوقها، بل ألصقت بكل من يرفع صوته تُهم “الإرجاف” أو “خدمة العدو”، وكأنّ النقد جريمة وكأنّ الجائع عليه أن يموت بصمت.
تتحرك حماس اليوم من منطق أمني صرف، يغلب فيه منطق السيطرة على منطق الإنقاذ، وهو ما أفقدها شرعية الحكم، حتى في عيون من لا يزالون يحملون شعاراتها، وبينما تسقط مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى، لا تزال القبضة الأمنية فاعلة لا لحماية الناس، بل لإخمادهم
ومع ذلك، فإن المشهد يحمل في طياته ما هو أخطر من مجرد صراع على المساعدات. فعودة “القانون الثوري” – ذاك الذي تأسس في سبعينيات منظمة التحرير، و هي استدعاء لذاكرة لا تخلو من العنف الرمزي والسياسي، وقد تشكّل نواة لحرب أهلية صامتة تتغذّى على العشائرية والتحزب .
هنا، لا يمكن إغفال ملاحظة تتكرر على لسان كثيرين داخل القطاع، مفادها أن حركة “حماس”، وبينما كان العالم مشغولًا بأحداث الحرب على إيران وتداعياتها الإقليمية، استغلت حالة الانشغال الإعلامي والسياسي لفرض المزيد من القبضة الحديدية في غزة. تسارعت، في تلك الفترة، حالات الاعتقال والتصفية بدعاوى أمنية أو اجتماعية، وتعرض عدد من النشطاء المدنيين لسوء معاملة تحت مبررات فضفاضة. ولم يكن من السهل فصل هذه الانتهاكات عن سياق الإرباك العام، أو اعتبارها تصرفات فردية.
ورغم أن هذه الوقائع لا تلقى اهتمامًا واسعًا في التغطيات الإخبارية التي تركز على مشاهد القصف والدخان، إلا أنها عمقت من جراح الغزيين وزادت من حالة الانفصال بينهم وبين السلطة القائمة، في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى من يواسيهم لا من يضاعف أوجاعهم.
لقد وصلت غزة إلى لحظة يتقاطع فيها الانهيار السياسي مع الفوضى المجتمعية، وبدل أن يتحمّل المجتمع الدولي مسؤوليته القانونية والأخلاقية في حماية المساعدات، يُترك الفلسطينيون ليحلّوا أزماتهم على طريقتهم : بالحكم العشائري، والرصاصة بدل القضاء.
وإذا كانت إسرائيل تتذرّع بأن تأمين المعونات يهدّد أمنها، فإن تعليق إدخال المساعدات بعد أن نجحت العشائر في حماية مسارها يكشف نفاقًا مفضوحًا. إنه ببساطة تكتيك لإبقاء غزة في حالة دائمة من القابلية للانفجار، حتى يصبح الانهيار هو الخيار الوحيد، وتُنسى القضية في ضجيج الصراعات الداخلية.
أما الفلسطينيون في غزة فهم الآن أمام مشهد يختزل المأساة في لقمة تُنهب أو تُدفع ثمنًا باهظًا أو تؤمن بالبندقية… وهي مفارقة لا تليق بشعب قاوم الاحتلال لعقود، لكنه يُجبر اليوم على أن يقاوم من يسرق طعامه.