منذ سقوط نظام بشار الأسد وصعود إدارة سورية جديدة إلى السلطة، لم تتضح معالم السياسة المصرية تجاه دمشق بشكل نهائي، إلا أن الأشهر الماضية أظهرت ميلاً متزايداً نحو القطيعة، رغم جهود إقليمية حثيثة لإحداث اختراق في جدار الجمود الدبلوماسي. وبدا أن القاهرة التي التزمت الصمت الحذر في بداية التحول السوري، تتجه الآن إلى مواقف أكثر صرامة، لا سيما بعد فشل محاولات التقريب التي رعتها أنقرة.
وساطة أنقرة ومحدودية النتائج
أبرز التحركات الدبلوماسية بين القاهرة ودمشق جرت في العاصمة التركية أنقرة خلال شباط/ فبراير الماضي، حيث عقد لقاء رسمي بين وزيري الخارجية أسعد الشيباني وبدر عبد العاطي، بوساطة تركية مباشرة. ورغم الإشارات الإيجابية التي رافقت اللقاء، إلا أن مخرجاته ظلت شكلية، ولم تتطور إلى خطوات عملية يمكن البناء عليها. ويبدو أن الخلافات الجوهرية بين البلدين، خاصة حول طبيعة الإدارة السورية الجديدة وخلفيتها السياسية، قد حالت دون تحقيق أي تقارب فعلي.
تحركات قانونية مصرية: تصعيد سياسي غير مباشر
في تحول لافت، وافقت محكمة القضاء الإداري في مصر مطلع حزيران/ يونيو الجاري على النظر في دعوى سياسية ضد الرئيس السوري أحمد الشرع، تتهمه بارتكاب انتهاكات ضد أقليات طائفية ودينية، خاصة في الساحل السوري. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء قانوني الطابع، إلا أنه يُحمَل سياسياً على أنه رسالة واضحة من القاهرة بعدم الاعتراف بشرعية النظام الجديد أو على الأقل التشكيك في نواياه الحقوقية.
المفارقة أن هذه الخطوة تتناقض مع تقارير أوروبية تُحمّل بقايا نظام الأسد مسؤولية أعمال العنف الأخيرة في الساحل، ما يعزز فرضية أن القاهرة تنظر إلى الوضع السوري من زاوية أمنية داخلية أكثر منها حقوقية أو سياسية خارجية.
القيود على الطلاب السوريين: تضييق متعمّد أم تدبير احترازي؟
بالتوازي مع التحركات القضائية، لوحظت تشديدات متزايدة بحق الطلاب السوريين في الجامعات المصرية، تمثلت في صعوبات في الحصول على الوثائق الرسمية، وتعقيد إجراءات الإقامة، بل ومنع بعضهم من العودة إلى مصر بعد زيارتهم لبلدهم، وذلك بذريعة نقص الموافقات الأمنية.
هذه الإجراءات لا تنفصل عن التوتر السياسي، ويُنظر إليها كامتداد لسياسة غير معلنة تسعى لتقليص الحضور السوري في مصر، خصوصاً في ظل الشكوك التي تثيرها الجهات الأمنية تجاه السوريين المنخرطين أو المتعاطفين مع التغيير الذي حصل في بلادهم.
المخاوف المصرية من النموذج السوري الجديد
منذ لحظة الإطاحة بنظام الأسد، أبدت السلطات المصرية نوعاً من التحفّظ تجاه الواقع الجديد في سوريا. ففي الوقت الذي بادرت فيه جهات شعبية إلى الاحتفال بهذا التحول، كانت الأجهزة الأمنية المصرية تتحرك في الاتجاه المعاكس، حيث سُجّلت اعتقالات في صفوف سوريين احتفلوا علناً بتغيير النظام، بينما تأخر السماح برفع العلم السوري الجديد في مقر السفارة السورية بالقاهرة.
المثير للانتباه أن هذا الموقف الحذر لم يكن مفهوماً بالكامل في بدايته، لكنه بات أكثر وضوحاً مع تطور الخطاب السياسي للإدارة السورية الجديدة، التي رغم خلفيتها الإسلامية، قدمت خطاباً يركّز على المواطنة والدولة، ورفض تصدير الثورة، مما خفّف من حدة القلق الدولي المعتاد تجاه التيارات الإسلامية.
انفتاح دولي يقلق القاهرة
المفارقة التي واجهت صانع القرار المصري هي أن دولاً تُعرف بتشدّدها التقليدي تجاه الإسلام السياسي ـ مثل فرنسا والإمارات ـ بدأت تنفتح على الإدارة السورية الجديدة، وتعقد معها اتفاقيات وتستقبل وفودها الرسمية. هذا التطور أربك المشهد المصري، الذي لطالما استند إلى افتراض أن التيارات الإسلامية، وإن وصلت إلى السلطة بوسائل ديمقراطية، لا يمكن الوثوق بها على المدى الطويل.
لكن الإدارة السورية ما بعد الأسد، بخطابها البراغماتي وعلاقاتها الدولية المتزايدة، بدت وكأنها تتجاوز هذا الحاجز، ما جعل القاهرة تُعيد النظر في مواقفها، ولكن نحو مزيد من التحفظ لا الانفتاح.
بين القلق والتوجس: مستقبل العلاقات على المحك
حتى الآن، لا يبدو أن القاهرة بصدد مراجعة موقفها أو تليينه، بل إن مؤشرات التصعيد تتزايد، خاصة مع ربط الملف السوري بالأمن القومي المصري، في ظل التجربة المريرة التي خاضتها مصر مع حكم “الإخوان المسلمين” وما تبعه من صراع داخلي استمر لسنوات.
لذلك، فإن مسار العلاقات المصرية السورية في المرحلة المقبلة سيبقى رهناً ليس فقط بالتطورات داخل سوريا، بل أيضاً بمدى استعداد الإدارة المصرية للتعامل مع واقع سياسي جديد قد لا يتطابق مع قناعاتها، لكنه يتعزز دولياً يوماً بعد يوم.