في سياق سياسة ممنهجة لتفكيك البنية الاجتماعية والوطنية الفلسطينية داخل القدس المحتلة، تتسارع خطوات سلطات الاحتلال الإسرائيلي لإغلاق المؤسسات الأهلية والخيرية الوطنية التي تمثل شريان دعم حيوي لصمود المقدسيين في وجه مشاريع التهويد والاقتلاع. القرار الأخير الذي اتخذه وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بإغلاق مكاتب “صندوق ووقفية القدس”، يندرج ضمن هذه السلسلة المتصاعدة من الإجراءات، ويكشف عن نوايا واضحة لضرب المقومات الأساسية لوجود الفلسطينيين في المدينة المقدسة.
الإغلاق الجديد لم يكن مفاجئًا في مدينة تواجه منذ سنوات سياسة تجفيف منهجي لمصادر الدعم والخدمات. فمنذ نحو عقد، استهدفت سلطات الاحتلال أكثر من 150 مؤسسة فلسطينية في القدس، من بينها مراكز ثقافية ومكتبات ومسارح، فضلًا عن المؤسسات الخيرية والإعلامية. هذه الحملة لم تقتصر على الإغلاق، بل شملت محاكمات ومضايقات إدارية، واعتقالات وقرارات عسكرية، تهدف جميعها إلى ضرب أي بنية تنظيمية يمكن أن تسند السكان وتحمي وجودهم.
“صندوق ووقفية القدس”، الذي تم استهدافه مؤخرًا، لا يعدو كونه مؤسسة خيرية مستقلة غير ربحية، تعنى بتقديم منح دراسية للطلبة، ودعم الأسر المقدسية، وتمكين ربات البيوت، فضلًا عن مشاريع ترميم المنازل والمباني التاريخية التي تعاني من الإهمال في أحياء القدس العتيقة. ومع ذلك، تذرعت سلطات الاحتلال، كعادتها، بارتباط هذه المؤسسة بالسلطة الفلسطينية، لتبرير قرار الإغلاق، في محاولة لنزع الطابع الفلسطيني عن المدينة، وفرض سيطرة إسرائيلية مطلقة على مؤسساتها المدنية.
قرار الإغلاق يحمل تداعيات خطيرة على سكان المدينة، الذين يعانون أصلًا من أوضاع اقتصادية خانقة. آلاف العائلات المقدسية باتت تعتمد على الدعم الذي تقدمه هذه المؤسسات، في ظل غياب البدائل، وتقليص خدمات الأونروا، وإهمال بلدية الاحتلال المتعمد للأحياء العربية. الطلبة، واليتامى، وذوو الدخل المحدود، هم الفئة الأكثر تضررًا، ما يجعل هذه الإجراءات تندرج ضمن أدوات تهجير ناعمة، تستخدم فيها إسرائيل الحصار المؤسساتي بدلًا من العنف المباشر، لدفع الفلسطينيين نحو الرحيل القسري.
إلى جانب استهداف المؤسسات، تتعرض الشخصيات الوطنية في القدس لحصار شخصي مباشر. فمحافظ المدينة، عدنان غيث، لا يزال ممنوعًا من دخول الضفة الغربية أو حتى التواجد في مقر المحافظة داخل المدينة. كما يخضع لقيود مشددة تشمل منعه من التواصل مع العشرات من الشخصيات العامة، ويواجه محاكمات متكررة تحت ذرائع واهية مثل “خرق شروط السجن المنزلي”. هذا النهج يعكس مدى سعي سلطات الاحتلال لإفراغ القدس من أي رمزية سيادية أو تمثيل وطني فلسطيني.
ما يجري اليوم هو جزء من مشروع أكبر يهدف إلى إعادة تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية للقدس. فإسرائيل لا تكتفي بمحاولات تغيير معالم المدينة ميدانيًا، عبر الاستيطان والهدم، بل تسعى أيضًا لتفكيك البنية الاجتماعية الفلسطينية، وضرب مؤسساتها الوسيطة، التي تشكل صلة الوصل بين السكان والقيادة الفلسطينية. كل مؤسسة مغلقة تمثل ضربة جديدة في جسد المدينة الذي يُنهك يومًا بعد يوم.
في مواجهة هذه الإجراءات، تتعالى الأصوات الحقوقية المطالبة بوقف سياسة الإغلاق التعسفي، إذ يُعتبر ما تقوم به سلطات الاحتلال انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، الذي يؤكد على حق السكان في الأراضي المحتلة بالحفاظ على مؤسساتهم الاجتماعية والمدنية. فالقدس، حسب الشرعية الدولية، لا تزال أرضًا محتلة، ويجب أن تُعامل على هذا الأساس، لا أن تُبتلع ضمن سيادة مفروضة بالقوة.
لكنّ الاحتلال لا يعير هذه القوانين أهمية، بل يواصل تسويق قراراته تحت ذريعة محاربة “الإرهاب” أو “النفوذ الفلسطيني”، بينما الواقع يقول إن من يُحارب في القدس هو الهوية الوطنية الفلسطينية ذاتها. ما يجري هو استهداف منظم للصمود، للذاكرة، وللحياة اليومية في مدينة يحاول سكانها الحفاظ على وجودهم وسط الحصار والضغط والإقصاء.
ووسط كل هذا، تبقى إرادة المقدسيين حاضرة، رغم كل العوائق. الإغلاق قد يطال المؤسسات، لكنه لن يُنهي الرسالة التي تحملها: رسالة البقاء في القدس، رغم الجدران والقرارات العسكرية، ومهما حاولت آلة الاحتلال أن تمحو ما تبقى من ملامح عربية في المدينة، فإن الجذور أعمق من أن تُقتلع بمقص أمني.