لم يتمكن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من إخفاء سعادته في أحد اللقاءات الشعبية التي جرت مؤخرا في القاهرة بحضور كبار المسؤولين. كان الرئيس السيسي محاطا بأطفال من مختلف الأعمار، بعضهم -كما كان واضحا- من ذوي الاحتياجات الخاصة. كان السيسي يعبر عن امتنانه لدولة الإمارات شاكرا إياها على مدّ يد العون بتقديم دعم اقتصادي وتوفير سيولة تبدو مصر في أمس الحاجة إليها الآن. وبشعبوية لافتة، حاور السيسي رئيس الوزراء مصطفى مدبولي الذي بدا مرتبكا في طريقة الرد. فمن جانب لا يعرف كم هي حصة الصندوق الذي تحدث عنه الرئيس من المال الإماراتي القادم في الطريق، ومن جانب آخر كان الحديث عن “هبرة”، أكبر من قدرة مدبولي على الرد: الحيرة بين الرد بلهجة رسمية على رئيس الدولة أم التجاوب معه بلغته الشعبية. لكننا كمراقبين نعرف أننا أمام مشهد من مصر، بلد الشعب صاحب روح الدعابة والنكتة، وحيث تكون مثل هذه التعليقات شيئا مقبولا، بل محببا. المال الإماراتي تدفق في الوقت المناسب وأعاد مصر من حافة الهاوية. هذا مدعاة للفرح وإضفاء مسحة من الطرافة.
لكنه قد يصبح فرحا مؤقتا. فهذه ليست المرة الأولى التي تتدفق فيها الأموال على مصر. بعد ثورة 2011، تسابق المال الخليجي نحو نصرة الطرفين المتصارعين في مصر، أي الإخوان والدولة العميقة بقيادة الجيش. لم يستمر تدفق المال القطري طويلا، إذ استبدل بالمال السعودي والإماراتي والكويتي بعد سقوط حكم الإخوان. ومع المنح والسيولة والاستثمارات، صار أسهل على مصر أن تحصل على قروض من بقية أنحاء العالم بتأييد من قراءة صندوق النقد الدولي للوضع هناك. لكن هذا المال ذهب نحو مشاريع لا تعد تنموية. نتذكر مليارات الدولارات التي أنفقت على ممر ثان في قناة السويس حيث يفترض أن توفير مساريْ ذهاب وإياب للسفن العابرة يعني مضاعفة عدد السفن المارة، وهذا افتراض لا أساس له.
ثم جاءت فكرة العاصمة الإدارية لمصر لتزيد من متاعب الاقتصاد المصري. في كثير من أوجه العاصمة الجديدة ثمة تناقض بين المطلوب والواقعي. الدولة المصرية تسعى لتقليص عدد موظفيها والانتقال إلى الحكومة الإلكترونية، لكنها في الوقت نفسه تبني مدينة ضخمة تستقطب مقرات الوزارات والإدارات الحكومية، وتستعد لإتخام مبانيها بالموظفين. أُنفقت أموال كثيرة على هذا المشروع. ثم جاء وباء كوفيد، وعودة الكثير من العاملين المصريين من الخليج بسبب سياسة توطين الوظائف، وحرب أوكرانيا لتزيد من متاعب الاقتصاد المصري. والآن، ورغم أنه كان من الواضح أن الحوثي ليس استعراضا للنفوذ الإيراني في اليمن، بل هو خطة للسيطرة على الممر الجنوبي للبحر الأحمر، تدفع مصر ثمن عدم تحركها مبكرا لمواجهة المشروع الإيراني هناك. بمسيرات رخيصة، استطاع الحوثيون (أي إيران)، توجيه ضربة خطيرة للتجارة العالمية وخصوصا تلك التي تمر عبر قناة السويس. اختفاء علب الشاي والقهوة من أرفف محلات السوبر ماركت في الغرب بسبب تحويل المسارات من قناة السويس إلى رأس الرجاء الصالح، هو مؤشر يذكّر مصر بأنها بصدد فقدان عائدات مرور تجارة الشاي والقهوة وغيرها من آلاف السلع التجارية الأخرى، وليس عائدات مرور ناقلات النفط والغاز وحسب. المصريون أنفسهم يتحدثون عن تراجع في عائدات القناة بنسبة 40 في المئة وربما أكثر.
تداعيات عدم تحرك القاهرة لمواجهة الحوثيين لم تقتصر على حركة الشحن البحري عبر قناة السويس اليوم فقط، بل غيّرت موقف السعوديين من مصر. في عهد العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تحركت الرياض لدعم حكم الجيش وإنقاذ مصر من قبضة الإخوان. عندما تعرض السعوديون لما يعدونه تهديدا مصيريا من اليمن، كان التجاوب المصري فاترا.
القيادة السعودية الجديدة اعتبرت التجاوب الفاتر موقفا سلبيا وبدأت بالتصرف على هذا الأساس. صحيح أن الكثير من المال السعودي صار موجها إلى نهضة اقتصادية سعودية داخلية واسعة النطاق، لكن كان بوسع الرياض أن تقدم ما يسند الحكم في مصر حتى وإن بدا أن إنفاق هذا المال ينتهي لصالح الجيش ومشاريعه. السعودية ليست من النوع الذي يدقق كثيرا في مآل المال السياسي الذي توجهه إلى هذا البلد أو ذاك، طالما تجد أنها حصلت على شيء مقابله، من مصالح أو نفوذ أو مواقف. أطلقت القيادة المصرية الكثير من الإشارات طلبا للمساعدة، بدأت أولا كتلميحات ثم تحولت إلى إشارات استغاثة. لكن السعودية لم تتجاوب.
مشكلة مصر في العقد الأول من حكم السيسي أنها أدمنت المال السهل، شيء يشبه إدمان الجسم البشري على السكريات. كان الخليجيون من المهتمين بدعم مصر ينبهون إلى أن عصر المال السهل انتهى، وأنهم مستعدون للعمل مع مصر في استثمارات تنموية هي خليط من المشاريع الجديدة وشراء الشركات القديمة.
كان رد فعل الجيش المصري انتقائيا، إذ أبقى لنفسه الشركات الرابحة والمضمونة، وصار يريد خصخصة الخاسرة منها فقط أو التي تحتاج إلى الكثير من المال لتقف على قدميْها. برود وصول الاستثمارات كان الرد الخليجي على سياسة الجيش هذه. كان هذا البرود يهدف إلى ترك مصر لبعض الوقت كي تواجه حقائق أزمتها المالية والاقتصادية. لم يكن البرود خليجيا فقط، بل إن صندوق النقد بدوره كان مترددا في توفير القروض، حتى تلك التي تخدم الديون المستحقة وتمنع إفلاس البلاد. تحسن الوضع بعض الشيء مع اندلاع حرب غزة وصار الغرب يتحدث عن عدم ترك مصر لتنهار في الوقت الذي تشتعل على حدودها أزمة من أكثر الأزمات السياسية والعسكرية تعقيدا في العصر الحديث.
لكن المشكلة بقيت قائمة: مصر تحتاج إلى سيولة فورية تنقذها وتمنع الانفجار الاجتماعي.
الإنقاذ جاء من الإمارات. الغموض في التصريحات عن مشروع “رأس الحكمة” كان مقصودا. لم يعرف إلا قلة من المصريين والإماراتيين حقيقة الاتفاق الذي جرى بين القاهرة وأبوظبي. كان الإماراتيون حريصين على عدم توضيح تفاصيل الاتفاق، الذي يبدو على الورق كصفقة استثمار اقتصادي، لكنه ترافق في الوقت ذاته مع تدفق كبير للسيولة والإيداعات في البنك المركزي المصري. لم تكن لديهم الرغبة في القول بأن هذه أموال مساعدة، والتزموا بالخطة الأصلية التي تمنع المال السهل عن مصر، وتوفر بدلا منه مالا استثماريا سريعا على شكل سيولة آنية بعشرات المليارات من الدولارات تساهم في إنقاذ البلاد.
“رأس الحكمة” مشروع لافت. ليس من باب المصادفة أن الإعلان عنه تزامن مع تصريحات صينية عن رغبة في الاستثمار على ساحل البحر المتوسط للوصول إلى أوروبا عن طريق محطة في مصر. لدى مصر الكثير من الموارد البشرية المتعلمة والتي تحتاج إلى إعادة تأهيل بمستويات عالمية تتجاوز التعثرات المحلية.
هذه الإمكانية الكامنة تلقفتها الإمارات بدخولها مشروع “رأس الحكمة”. ثمة الكثير مما يمكن أن يتم في هذا القسم من منطقة المتوسط الذي ظل غير مستغل تاريخيا لأسباب صار بوسع التكنولوجيا الحديثة أن تتجاوزها ما إن تتوفر الاستثمارات. تبدو مدن مثل دمياط والإسكندرية كوجود سكاني طبيعي على حافة دلتا النيل الشمالية، حيث يوفر النيل سبل الحياة. لكن ما إن تتحرك بعيدا عن حافة الدلتا الغربية باتجاه السلوم على الحدود الليبية، حتى تواجه مئات من الكيلومترات من السواحل المتروكة، ربما باستثناء العلمين ومرسى مطروح. اليوم، بوسعك أن تقيم مشروعات كبرى ما إن توفر مياه التحلية من محطات الكهرباء أو مجمعات الطاقة الشمسية التي يمكن أن تزدهر في نقطة من أفضل المواقع الجغرافية توفرا للشمس. الماء والطاقة هما الأساس في قيام المشاريع اليوم. أضف أهمية الموقع الجغرافي وسترى أن ثمة الكثير من الحكمة في الاستثمار في “رأس الحكمة”.
مدينة “رأس الحكمة” التي نتخيلها ستجمع الكثير من عناصر النجاح. هذا موقع على البحر المتوسط، أهم ملتقى حضاري وإنساني تاريخي في العالم. لا يمكن أن نتصور أن الأمر سيكون محدودا بتوفير منطقة سياحية تستقطب السياح الأجانب، مثل مشروع “العلمين” الجديدة. المصري سيفكر في خياراته للعمل أو الاستثمار في “رأس الحكمة”، بينما سيجد الخليجي في المكان نقطة قريبة من أوروبا لم تكن متوفرة من قبل. الاستثمار الأولي في المشروع هو 35 مليار دولار، لكن رئيس الوزراء المصري تحدث عن نتيجة تلوح زمنيا تتجاوز 150 مليار دولار.
بموضوعية، هذا تقدير متحفظ لما هو قادم. ولو كنت من مخططي مشروع نيوم السعودي القريب نسبيا، فإني سأقلق من آفاق المشروع المستقبلية. أي مستثمر، بل أي خليجي يريد مكانا له ولعائلته للراحة والاسترخاء في منطقة من أجمل مناطق المتوسط موقعا ومناخا، هل سيفكر كثيرا في الاختيار بين نيوم و”رأس الحكمة”؟ لا شك أن الجواب واضح.
مصر أمام إحدى الفرص الاستثمارية الاستثنائية التي لم تتوفر لأي من الدول في شمال أفريقيا. ربما من قبيل الصدف أن تكون مشاعر السعادة بوصول المال إلى مصر في توقيت حرج مصحوبة بمشهد لأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة. لا يمكن النظر إلى مصر كمشروع معوق، بل كإمكانية كامنة وكبيرة لم يتم استغلالها بشريا أو جغرافيا كما ينبغي. لعل مصر هذه المرة تتعلم من حكمة الابتعاد عن إقامة مشاريع ضخمة ولافتة للنظر، لكنها، مثلها مثل الأهرامات، مجرد مشاهد للنظر وليس للتنمية والعيش.