اليوم، يرزح نحو 20 في المئة من جنوب شرقي أوكرانيا تحت الاحتلال الروسي، بما في ذلك شبه جزيرة القرم وأجزاء كبيرة من مناطق دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابوريجيا. وقد صوّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب في أوكرانيا باعتبارها حملة قومية لصد التوسع الغربي واستعادة الأراضي التي يرى أنها تنتمي بحق إلى روسيا. لكن للغزو دافع آخر وهو المكاسب الاقتصادية. وإذا حافظت روسيا على السيطرة العسكرية على هذه المناطق، فقد تأمل في جني تلك المكاسب. ولكن في هذه المرحلة، ليس من الواضح ما إذا كانت هذه المناطق ستتحول إلى أصول اقتصادية لموسكو، إذ إن دعم الأراضي التي مزقتها الحرب قد يتحول بسهولة إلى عبء يستنزف خزائن روسيا.
في الواقع، إن الكلف البشرية لهذه الحرب هائلة، فالقوات الروسية تحكم أوكرانيا المحتلة بقبضة من حديد، وتشارك في حملة قاسية من التعذيب والخطف والعنف والقتل التعسفي. وأي تقييم للعواقب الاقتصادية المترتبة على الحرب لا ينبغي أن يقلل من وحشيتها المروعة أو المعاناة الهائلة التي تسببت بها. لكن النتيجة الاقتصادية ستؤثر في الأحكام المستقبلية في شأن قرار بوتين غزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. فإذا استفادت روسيا اقتصادياً من احتلال أوكرانيا، فقد يتذكر الناس هذه الحرب باعتبارها نجاحاً إستراتيجياً، حتى لو كان وحشياً. أما إذا عانت روسيا اقتصادياً، فسيُنظر إلى الغزو باعتباره خطأ فادحاً همجياً يؤدي إلى هلاك ذاتي.
وستؤثر النتيجة أيضاً في شهية المعتدين المحتملين الآخرين ورغبتهم في التوسع الإقليمي والإمبريالي، الذي بقي في الغالب في حال خمول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فالإمكانات الاقتصادية، أو الافتقار إليها، في الأراضي التي احتلها بوتين، قد تؤثر في تقييمات زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون للثروة التي يمكن أن تجنيها بلاده من غزو كوريا الجنوبية، أو على رغبة الرئيس الصيني شي جينبينغ في السيطرة على تايوان وصناعة أشباه الموصلات المتقدمة تكنولوجياً، أو حتى على نوع المنطق الذي يدفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى التفكير في السيطرة على كندا وغرينلاند وقناة بنما.
مع دخول القتال في أوكرانيا حالاً من الجمود الدموي وعدم قدرة أي من الطرفين على تحقيق تقدم حاسم، حان الوقت للتفكير في مصير شرق أوكرانيا تحت احتلال روسي مطول، حتى لو كان مرفوضاً عالمياً. يذكر أن المكاسب الصافية التي يمكن تحقيقها من المناطق المحتلة أو المضمومة تعتمد بصورة أساس على حجم الدمار الذي يلحق بها أثناء تعرضها للغزو وعلى نسبة السكان الذين يقاومون أو يفرون. إن الدمار الذي خلفته الحرب، وآلاف القتلى، وفرار السكان في سن العمل منذ غزو بوتين عام 2014 والتصعيد عام 2022، وعناد أولئك الذين بقوا، هي أمور ستحد بصورة كبيرة من مكاسب روسيا من الغزو، حتى من دون احتساب الكلفة الهائلة في أرواح الروس في سبيل انتزاع هذه الأراضي من تحت السيطرة الأوكرانية.
الهرب من الغزو
عام 2014، احتلت روسيا منطقة شبه جزيرة القرم الأوكرانية وضمتها، ودعمت القوات الانفصالية في السيطرة على أجزاء من منطقتي دونيتسك ولوهانسك. وفي أوائل عام 2022، فشل غزوها في إطاحة الحكومة في كييف، لكن الجيش الروسي وسع سيطرته إلى 60 في المئة من منطقة دونيتسك، وكامل منطقة لوهانسك تقريباً، واستكمل تطويق الجانب الأوكراني من بحر آزوف، بعدما بسط سيطرته على معظم منطقتي خيرسون وزابوريجيا. وعلى رغم أن شبه جزيرة القرم هي المنطقة الوحيدة التي تسيطر عليها روسيا بالكامل، فقد أعلنت موسكو ضم جميع هذه المناطق رسمياً.
لكن الانخفاض الكبير في عدد السكان يفرض قيوداً شديدة على المكاسب الاقتصادية المحتملة لروسيا من هذه الغزوات. منذ عام 2014، بدأ الأوكرانيون في الفرار من القرم، وبخاصة من “جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين” اللتين أنشأتهما روسيا في شرق أوكرانيا، هرباً من الفوضى والقتال، ولأنهم فضلوا الحكم الأوكراني على الحكم الروسي. وأدى تصاعد القتال عام 2022 إلى تجدد موجة النزوح من دونيتسك ولوهانسك إلى المناطق الأوكرانية غير المحتلة وإلى دول أوروبية أخرى، وتسبب في نزوح جماعي مماثل من خيرسون وزابوريجيا.
من الصعب الحصول على أرقام دقيقة، بيد أن بيانات المنظمة الدولية للهجرة وحساباتنا الخاصة تشير إلى أن هناك ما لا يزيد على 5 ملايين أوكراني لا يزالون يعيشون في المناطق الخمس الخاضعة للاحتلال الروسي، وهو انخفاض بنسبة 56 في المئة مقارنة بـ 11.4 مليون نسمة كانوا يعيشون هناك قبل عام 2014. هذا العدد الإجمال يخفي انخفاضاً أكثر حدة في المناطق الأربع المحتلة باستثناء شبه جزيرة القرم: نظراً إلى هدوء الأوضاع النسبي في شبه جزيرة القرم، وبُعدها عن القتال العنيف، وربما تفضيل بعض السكان البقاء فيها، انخفض عدد سكانها بنسبة 17 في المئة فقط. أما التقديرات الأخرى فهي أكثر تشاؤماً، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن ما يقارب 90 في المئة من سكان بعض المناطق فروا منذ عام 2014. أما الذين بقوا، فيبدو أنهم من كبار السن، وأقل تعليماً، ومن المرجح أنهم يعانون مشكلات صحية، وهي فئات بقيت لأنها لم تتمكن من المغادرة، وحتى بعد الحرب ستكون أقل إنتاجية اقتصادياً، لا بل ستحتاج أيضاً إلى دعم أكبر من الدولة.
من غير المرجح أن يكون السكان الخاضعون للاحتلال وحال اضطراب منتجين اقتصادياً، وهو درس تعلمته روسيا خلال العقد الماضي في شرق دونيتسك ولوهانسك. فقد وجدت موسكو أنه من الضروري تعيين مواطنين روس في المناصب الأمنية والإدارية الرئيسة لأن السكان الأوكرانيين المتبقين كانوا، باستثناءات قليلة، غير مستعدين للتعاون بشكل فعال مع السلطات الروسية. وتفشت الجريمة بصورة كبيرة، إذ تولى مسلحون محليون محدودو النفوذ إدارة معظم المناطق تحت إشراف متراخٍ من الجيش الروسي، وقد أعاقت هذه الفوضى النشاط الاقتصادي.
ومع ذلك، حتى لو امتنع الأوكرانيون المتبقون عن المقاومة النشطة والسلمية، وحاولوا العيش بسلام والعمل بشكل منتج ودفع الضرائب بالكامل، فإن عددهم ببساطة غير كاف للإسهام بشكل ملموس في الاقتصاد الروسي. ويؤدي نقص العمالة إلى خلق عراقيل اقتصادية شديدة في كل مكان باستثناء شبه جزيرة القرم. وسيكون على روسيا استعمار المنطقة، لكن ذلك يتطلب سحب العمال الحاليين أو المحتملين من أجزاء أخرى من روسيا نفسها.
أرض الخراب الاقتصادي
المشكلة لا تقتصر على نقص اليد العاملة وحسب، فالأراضي المحتلة تفتقر إلى الصناعات والبنية التحتية الملائمة للإنتاج الاقتصادي. وقد أدت الضربات المدفعية والطائرات المسيرة والصواريخ على خطوط المواجهة وعلى المستودعات اللوجستية والطرق والجسور وخطوط السكك الحديد إلى تدمير النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء الأراضي الأوكرانية الخاضعة للاحتلال الروسي. تحولت مدينة ماريوبول، التي كانت موطناً لأكثر من 500 ألف شخص في السابق، إلى ركام حيث دُمر أكثر من 90 في المئة من مبانيها. وفي مدن أخرى مثل باخموت، التي كان يقطنها 70 ألف شخص، أو فوفشانسك، التي كانت موطناً لـ17 ألف نسمة آخرين، دُمر كل شيء، لم يعد هناك أية مبانٍ سليمة وبالتأكيد لا وجود لأي سكان. ولا تزال حركة النقل الضرورية للنشاط الاقتصادي محدودة وستظل كذلك لفترة طويلة بسبب مساحات واسعة من حقول الألغام المضادة للأفراد والدبابات في جميع المناطق المحتلة باستثناء شبه جزيرة القرم.
وبدلاً من أن تكون غنيمة حرب، تأتي هذه الأراضي المحتلة مع فاتورة إعادة إعمار ضخمة. عام 2023 طرحت السلطات الروسية برنامج تنمية بقيمة 11 مليار دولار للمناطق المحتلة، ولكن من المرجح أن تُستخدم هذه الأموال جزئياً في الأقل لأغراض عسكرية مثل التحصينات الدفاعية. وفي السابق، كانت مثل هذه البرامج هدفاً معروفاً للفساد المستشري. كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت روسيا تنوي بالفعل إعادة إعمار هذه الأراضي المنكوبة.