وصل الوضع الإنساني في قطاع غزة إلى مرحلة غير مسبوقة من التدهور والتجويع الجماعي المنهجي، حيث بات سلاح “الطعام” أداة قتال إضافية في واحدة من أكثر الحروب دموية وشمولية في العصر الحديث. وفقاً لما كشفه المفوض العام لوكالة “الأونروا” فيليب لازاريني، فإن إسرائيل لا تستخدم فقط القصف والدمار في حربها على القطاع، بل تُحكم الخناق عبر تسليح الغذاء والمساعدات الإنسانية، وتوظيفها كوسيلة ضغط سياسي وعسكري، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
سلاح التجويع: سياسة ممنهجة وليست عرضاً جانبياً
ما يُمارس اليوم في غزة لا يُعد “نتيجة ثانوية للحرب”، بل يُظهر نمطاً ممنهجاً لسياسة التجويع. لعدة أشهر، تمنع إسرائيل دخول المواد الغذائية الأساسية، والمياه النظيفة، والوقود، والأدوية، متحكّمة في المعابر ومراقبة الشحنات بدقة متناهية. آلاف الأطنان من المساعدات تتكدس على الحدود المصرية، بينما يموت الأطفال جوعاً على بُعد كيلومترات قليلة منها، في واحدة من أكثر الصور اللا إنسانية التي عرفها العالم المعاصر.
الأرقام صادمة: أكثر من 2.2 مليون نسمة يعيشون الآن في حالة انعدام أمن غذائي حاد. بحسب التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، هناك 470 ألف فلسطيني وصلوا إلى المرحلة الخامسة، أو “المرحلة الكارثية”، وهو المستوى الأعلى من المجاعة. هذه الفئة تعاني من الجوع الشديد، والانهيار البدني، والموت البطيء. من بين هؤلاء، هناك 71 ألف طفل وأكثر من 17 ألف أم بحاجة إلى علاج فوري من سوء التغذية الحاد.
المفارقة المؤلمة أن الكارثة لا تحدث في جزيرة نائية أو منطقة مغلقة بسبب الطبيعة، بل في واحد من أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، والمساعدات التي يمكنها أن تنقذ حياة مئات الآلاف، موجودة وتنتظر، لكنها لا تجد طريقها بسبب الحصار الإسرائيلي والقيود المفروضة.
المؤسسات الإغاثية: بين العجز والغضب
المؤسسات الإغاثية، وعلى رأسها “الأونروا” وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية، وجدت نفسها أمام معضلة وجودية. فبينما هي مكلفة بإنقاذ الأرواح، تُمنع من القيام بمهامها بسبب سياسات الاحتلال، أو تُطلب منها التعاون مع آليات توصيل تفرضها إسرائيل والولايات المتحدة، تتضمن شركات أمنية خاصة ومرافقة عسكرية إسرائيلية. هذا النموذج تم رفضه بشكل قاطع، لأنه ينتهك مبادئ الحياد والاستقلال التي تعتمدها الأمم المتحدة في كل عملياتها، ويحول المساعدات إلى أداة ضمن اللعبة السياسية والأمنية.
تُحذّر هذه المؤسسات من أن الوضع سيتدهور بشكل كارثي خلال أسابيع، وربما أيام، إذا لم يُسمح بدخول كميات كافية من المساعدات الإنسانية. وفي ظل انهيار النظام الصحي وغياب المياه النظيفة، قد لا يموت الناس بسبب القصف، بل بسبب الجوع، والعطش، والأمراض المرتبطة بسوء التغذية.
سياسة التهجير والتضييق المكاني
تجويع غزة لا يأتي بمعزل عن عمليات التهجير المتواصلة، والتي تهدف إلى حصر السكان في مساحة ضيقة جنوب القطاع، لا تتجاوز عدة كيلومترات، وتحديداً في منطقة قرب أنقاض مدينة رفح. في هذه المناطق، يُمنع الناس من العودة إلى الشمال، حيث أغلب المنازل والحقول والمصادر الطبيعية، ويُحشرون في ظروف غير إنسانية، دون خدمات، ودون أمل.
وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 70% من أراضي غزة أصبحت غير صالحة للسكن، إما بسبب التدمير أو القيود الأمنية الإسرائيلية. هذا الوضع يهدف بشكل واضح إلى كسر إرادة السكان ودفعهم إلى خيار وحيد: الهجرة أو الموت.
التجويع كجريمة حرب واحتمال الإبادة الجماعية
تصريحات فيليب لازاريني لا تحتمل التأويل: ما يجري في غزة من حرمان متعمد من الغذاء والماء هو جريمة حرب موثقة. استخدام الحصار الغذائي لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية يرقى، وفق القانون الدولي، إلى “جريمة ضد الإنسانية”. بل إن الممارسات الجارية حالياً تقترب بشكل خطير من تعريف الإبادة الجماعية، خصوصاً في ظل النطاق الواسع للدمار، والأعداد الهائلة من الضحايا، واستهداف بنى الحياة الأساسية للسكان كالصحة والتعليم والغذاء.
غزة ليست فقط ضحية حرب، بل ضحية لسياسة مقصودة تسعى إلى إبادة مقومات الحياة فيها. التجويع هنا ليس نتيجة الحصار فقط، بل سلاح استراتيجي يستخدم ضد شعب بأكمله. المؤسسات الإغاثية تواجه جداراً سياسياً وأمنياً يمنعها من أداء واجبها، بينما العالم يتفرج، أو يتورط في تقديم حلول “أمنية” لتوزيع المساعدات.