على وقع أزمات سياسية واقتصادية متتالية، وجدت تونس نفسها في مواجهة آفة اجتماعية تتفاقم بصمت ولكن بسرعة مقلقة: انتشار المخدرات بين الشباب. لم تعد المخدرات مجرد مشكلة أخلاقية أو اجتماعية، بل تحولت إلى معضلة أمنية تهدد استقرار الدولة وتفتح الباب لتدخلات خارجية، تستغل هشاشة الواقع الداخلي لتوسيع نفوذها وتنفيذ أجنداتها.
خلال السنوات الأخيرة، تزايدت المؤشرات التي تؤكد ارتفاع نسب استهلاك المخدرات بين أوساط الشباب التونسي بشكل لافت. التقارير الأمنية تشير إلى تفكيك شبكات تهريب معقدة تمتد جذورها إلى الخارج، بينما تتحدث دراسات ميدانية عن ارتفاع الإقبال على أنواع خطيرة من المخدرات المصنعة محليًا أو المهربة عبر الحدود البرية والبحرية. ويظهر أن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على المناطق المهمشة، بل امتدت إلى المدن الكبرى، وحتى إلى الفئات المتوسطة التي تعاني، بدورها، من شعور بالإحباط وفقدان الأمل.
العوامل الداخلية التي ساهمت في هذا الانفجار متعددة ومترابطة. فمن جهة، أنتجت البطالة المرتفعة، خاصة في صفوف خريجي الجامعات، جيشًا من الشباب التائه الباحث عن متنفس. ومن جهة أخرى، عزز تآكل الثقة في المؤسسات السياسية والاجتماعية حالة الانفصال بين الفرد والدولة، مما أدى إلى تراجع الالتزام بالقيم التقليدية وتفشي ثقافة الهروب من الواقع. وسط هذه البيئة المشبعة باليأس، باتت المخدرات تعرض على الشباب كوسيلة للهروب المؤقت من الألم والخيبة.
غير أن الأزمة لا تقف عند حدود العوامل الذاتية الداخلية. فهناك معطيات مقلقة حول دور شبكات خارجية تسعى إلى استثمار هشاشة الوضع في تونس عبر تسهيل دخول المخدرات. مصادر أمنية وتحقيقات صحفية ألمحت إلى ضلوع مافيات دولية وبعض الأطراف الإقليمية في تسهيل تهريب المخدرات عبر الحدود الجنوبية مع ليبيا والجزائر، فضلاً عن استخدام الموانئ البحرية التونسية كنقاط عبور. ولعل الأكثر خطورة هو الحديث المتواتر عن توظيف هذه التجارة القذرة لتحقيق أهداف سياسية، مثل نشر الفوضى وإضعاف الدولة الوطنية لصالح مشاريع إقليمية أو أجندات أجنبية تريد لتونس أن تبقى رهينة الاضطرابات.
في السياق نفسه، تتحدث تحليلات عن استغلال بعض الأجهزة الأجنبية لحالة الإدمان المتفشية في أوساط الشباب لتجنيدهم لاحقًا في أنشطة مشبوهة، سواء كانت متعلقة بتبييض الأموال أو حتى بأعمال تخريبية تستهدف أمن البلاد. ويُخشى أن يؤدي ترك هذه الظاهرة دون معالجة جدية إلى تحوّل الشباب إلى وقود لصراعات خارجية لا ناقة لتونس فيها ولا جمل.
التعامل الرسمي مع هذه الأزمة لا يزال خجولاً مقارنة بحجم التحدي. فرغم وجود بعض المبادرات الوقائية والحملات التوعوية، فإنها تبقى مجزأة ومرتبطة في الغالب بمناسبات محددة، ما يقلل من فعاليتها. أما على مستوى المكافحة الأمنية، فهناك جهود ملحوظة ولكنها تصطدم أحيانًا بضعف الإمكانيات، وبالفساد الذي قد يتسلل إلى بعض المفاصل، مما يعرقل ضرب الشبكات الكبيرة القادرة على الإفلات من قبضة العدالة.
إن خطورة الوضع الحالي تتطلب استراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة، تتجاوز المعالجة الأمنية الظرفية إلى بناء سياسات اجتماعية واقتصادية طويلة المدى تستهدف جذور الظاهرة. فمحاربة المخدرات تبدأ من إعادة الأمل إلى نفوس الشباب عبر توفير فرص حقيقية للعمل والتعليم والتنمية. كما تقتضي تعزيز الرقابة على الحدود والموانئ، والتعاون الإقليمي والدولي الفعّال في ملاحقة شبكات التهريب، مع تحصين المجتمع من الاختراقات الثقافية التي تروج لثقافة المخدرات كأسلوب حياة.
في النهاية، تبدو معركة تونس ضد المخدرات اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على استعادة زمام المبادرة أمام العواصف الداخلية والخارجية. إنها معركة وجود تتطلب صحوة جماعية من كل مكونات المجتمع، لأن خسارتها قد تفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر قتامة تهدد الحلم التونسي الذي ولد مع رياح الثورة، وكاد أن يضيع وسط العواصف العاتية.