في زوايا العتمة التي غطّت غزة، لا تصرخ الطائرات فقط، بل تصرخ الأجساد المنهكة التي أنهكها المرض قبل أن يفتك بها الحصار والنار. مأساة مرضى الفشل الكلوي في غزة لم تكن نتيجة الحرب فقط، بل نتيجة الاختناق البطيء، والخذلان الصامت.
استشهاد القوائم الطبية
في حيٍّ صغير شمال غزة، كانت “أم سامي” تستيقظ مع الفجر، تجهز نفسها ببطء لأن جسدها لم يعد يطاوعها، وتستعد لرحلة الغسيل الكلوي. ثلاث مرات في الأسبوع كانت تتوجه إلى مركز نورة الكعبي، حيث كانت الأجهزة القديمة تعمل كأنها تنبض بالحياة لأجل من لا يملك غيرها. كانت تقول دائمًا: “هذا المكان مش بس مركز.. هذا بيتي الثاني، لو انحرمنا منه نموت.”
وفي صباح أحد الأيام، استيقظت “أم سامي” على انفجار. لم يكن مثل الانفجارات السابقة. هذه المرة، كان المركز هو الهدف. تحوّلت أجهزة الغسيل إلى ركام، والكوادر الطبية إلى أسماء على قوائم الشهداء، وغابت عن المرضى تلك الابتسامة التي كانت تقول لهم: “أنتم لستم وحدكم”.
في اليوم التالي، لم تستطع “أم سامي” الوصول لأي بديل. جسدها امتلأ بالسموم التي كانت الأجهزة تنظفها. لم يكن هناك دواء، ولا فرصة للهروب، ولا حتى مكان للشكوى. بعد 48 ساعة، لفظت أنفاسها الأخيرة في منزلها، محاطة بأولادها الذين لم يستطيعوا سوى ترديد الشهادة، عاجزين عن فعل شيء لأمهم التي كانت تموت ببطء أمامهم.
تدمير مراكز غسيل الكلى
أما “أيمن”، شاب في الثلاثين من عمره، فقد كان يحاول النجاة رغم مرض الكلى المزمن. نزح من بيت لبيت، من شارع لشارع، حاملاً ملفه الطبي تحت ذراعه، كأنّه بطاقة حياة يبحث لها عن منفذ. وعندما وصل أخيرًا إلى نقطة طبية جنوب القطاع، قيل له إن الأجهزة ممتلئة، وإن القائمة طويلة، وربما عليه الانتظار يومين. لم يحتمل جسده الانتظار… وتوفي في أحد الزوايا الباردة للمشفى، دون حتى أن يعرفه أحد.
هؤلاء ليسوا أرقامًا في نشرات الأخبار. هؤلاء أمهات، وآباء، وشباب، وأطفال… كانت لهم أحلام مؤجلة، وأدوية مؤجلة، وأمل مؤجل، حتى سرقه منهم العدوان وتواطؤ الصمت الدولي.
تدمير مراكز غسيل الكلى في غزة ليس ضررًا جانبيًا. هو هجوم ممنهج على الحياة. كل ضربة على مستشفى، كل قصف لمركز طبي، ليس فقط عدوانًا على الحجارة، بل على إنسانية العالم كله.