دخل الوضع الإنساني في قطاع غزة مرحلة الكارثة الكاملة، مع وصول المنظومة الصحية إلى حافة الانهيار بفعل النقص الحاد في المعدات والأدوية والكوادر، في ظل استمرار الحصار والعدوان الإسرائيلي.
المستشفيات لم تعد فقط غير قادرة على تلبية احتياجات المرضى، بل أصبحت نفسها بحاجة إلى “رعاية عاجلة” كي تبقى عاملة. ما يُوصف اليوم بنقص في الأدوات الجراحية وأجهزة الأشعة والتخدير والغازات الطبية، ليس مجرد مشكلة تقنية، بل تهديد مباشر لحياة آلاف الجرحى والمرضى.
انهيار في البنية التحتية
غياب الأدوات الجراحية التخصصية، كأدوات العظام والأوعية الدموية، يعني أن الإصابات المعقّدة الناتجة عن القصف المستمر لا يمكن التعامل معها، مما يُحوّل الإصابات القابلة للعلاج إلى حالات موت محقق أو إعاقات دائمة. وفي أقسام العناية المركزة والطوارئ، العمل بأدوات مستهلكة وبلا مستلزمات مكافحة العدوى يزيد من خطر انتشار التلوث والعدوى القاتلة، ويعرّض حياة المرضى والطواقم الطبية على حد سواء للخطر.
أزمة غياب غازات أساسية مثل ثاني أكسيد الكربون، الضروري في بعض العمليات الجراحية والتنفس الصناعي، تشير إلى عمق الانهيار في البنية التحتية الصحية. هذا النوع من الإمدادات لم يكن يومًا من الكماليات، بل يُعدّ من أساسيات أي غرفة عمليات. حين يصبح هذا الغاز مفقودًا، تصبح العملية الجراحية مستحيلة.
سياسة منهجية
الأزمة لا تتوقف عند المعدات، بل تمتد إلى مستوى معيشة الطواقم الطبية نفسها، التي تعمل على مدار الساعة بلا طعام كافٍ، أو أدوية، أو حتى أسرّة للراحة. ومع استمرار استهداف الطواقم بشكل مباشر، كما أكدت جمعية الهلال الأحمر، فإن الكادر الطبي ذاته بات في خطر دائم، حيث تحوّلت شارة الهلال الأحمر – التي يُفترض أن توفّر الحماية بموجب القانون الدولي – إلى هدف عسكري مكشوف، في انتهاك صارخ لأبسط المبادئ الإنسانية.
استشهاد أكثر من 1400 من العاملين في القطاع الطبي منذ بداية الحرب، بينهم 48 من كوادر الهلال الأحمر، ليس رقمًا عابرًا، بل هو مؤشر على وجود سياسة منهجية لإفراغ القطاع من الرعاية الصحية، وتحويل المستشفيات إلى مساحات ميّتة لا تُقدّم علاجًا ولا تجد من يديرها. حين تُستهدف سيارات الإسعاف، ويُعتقل المسعفون، وتُقصف المستشفيات، فإن الرسالة واضحة: لا أمان حتى لمن يداوي الجراح.
المستشفيات إلى مقابر
الصمت الدولي حيال هذه المجازر الطبية لا يُعد فقط تواطؤًا، بل مشاركة غير مباشرة في الجريمة. المجتمع الدولي، بصمته، سمح بتحويل المستشفيات إلى مقابر، والطواقم الطبية إلى شهداء في ميدان لم يُفترض يومًا أن يكون ساحة حرب. ومطالبة الهلال الأحمر بتوفير الحماية للعاملين في المجال الإنساني ليست مجرد نداء عاطفي، بل دعوة لرد اعتبار للشرعية الدولية التي تم دوسها بالأقدام في غزة.
الوضع في القطاع تجاوز مسألة النقص الطبي، وأصبح نموذجًا للتجويع الطبي المتعمّد كسلاح حرب. فالهدف لم يعد فقط قتل من يُقصف، بل منع علاج من ينجو، وتقويض قدرة الناس على الحياة أو حتى التداوي. إنها سياسة تهدف إلى استسلام الجسد الفلسطيني نفسه، بعد أن فشلت آلة الحرب في كسر إرادة أهله.