في البلدة القديمة بالقدس، حيث تشتبك الأحجار بالتاريخ، وتتنفس الأرواح رائحة العبادة منذ قرون، يعيش الفلسطينيون حالة يومية من الترقب والقلق. هبة، أم لثلاثة أطفال، تسكن في حي باب حطة، أحد أقرب الأحياء إلى المسجد الأقصى. تتحدث بصوت متهدج عن الصباحات التي تبدأ على أصوات الجنود، والليالي التي تنتهي بدموع أطفالها بعد كل اقتحام. تقول:
منع الفلسطينيين من التكبير
“في كل مرة أدخل فيها الأقصى، أشعر أنني أودعه، مش عارفة إذا المرة الجاي راح أقدر أوصل. الجنود واقفين عند البوابات، يفتشونا ويستفزونا. بنتي الصغيرة صارت تخاف تصلي معاي، مرة بكت بس لأن الجندي صرخ عليها وهي داخلة”.
أما عماد، الشاب المقدسي الذي يعمل داخل أسوار البلدة القديمة، فيرى في كل اقتحام للمستوطنين صفعة جديدة لهويته. يقول وهو يراقب مجموعات المستوطنين تمر قرب سوق القطانين بحماية مشددة: “إحنا مش ضد اليهود كيهود، بس ضد الاستفزاز. المستوطنين بيجوا الأقصى وبيمشوا فيه كأنه ملكهم. بيرددوا الترانيم بصوت عالي، وبحماية الجيش، وإحنا ممنوع نرد، ممنوع حتى نرفع صوت التكبير”.
تغيير هوية الأقصى
سلوى، المعلمة في مدرسة قريبة من باب السلسلة، تستذكر يومًا طُرد فيه طلابها من المسجد بعدما كانوا في رحلة تعليمية عن التراث الإسلامي. “قلبي انكسر. تخيل أطفال صغار بيجوا يتعلموا عن تاريخهم، وفجأة بينطردوا لأنه جندي شاف أنه شكلهم مزعج! الاحتلال ما بس يعتدي على الحجر، هو بيحاول يمحي الذاكرة”.
رأفت، في الأربعين من عمره، يرى أن ما يجري الآن أخطر من أي وقت مضى. “الموضوع مش بس اقتحام، ولا رفع علم، ولا هتاف مستوطنين. الخطر الحقيقي إنهم بدهم يغيّروا الواقع كأن الأقصى مو موجود، كأن وجودنا فيه غلط. بيبنوا رواية جديدة وبدهم العالم يصدقها، وكل يوم بيحطوا حجر جديد في روايتهم”.
المسجد الأقصى محور وجود وهوية
أم سائد، امرأة مسنّة اعتادت زيارة الأقصى كل يوم منذ عقود، تروي بأسى كيف أصبحت تشعر بالغربة في المكان الذي حفظت كل ذرات ترابه. “ما كنت أفكر يوم إني أمشي للأقصى وأنا خايفة. الحين، كل مرة أروح أحس إنهم بيطالعوا فيا كأنني دخيلة. قلبي بينقبض لما أشوف الحواجز، بس الأقصى عمره ما كان سهل، عمره ما كان للي بيخاف”.
ما يقوله سكان القدس اليوم ليس مجرد مشاعر شخصية، بل شهادة حيّة على سياسة منظمة، تهدف إلى فرض واقع جديد بالقوة، يشبه الاحتلال في كل تفاصيله، لكنه أخطر، لأنه يريد اقتلاع العلاقة الوجدانية والتاريخية بين الفلسطيني والمكان. المسجد الأقصى بالنسبة لهؤلاء ليس فقط مكان صلاة، بل محور وجود وهوية، خط أحمر لا يمكن تجاوزه دون اشتعال كل ما حوله.