منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحرب في قطاع غزة في أكتوبر 2023، بدا أن بنيامين نتنياهو يقف على حافة النهاية السياسية. الهجوم المباغت الذي شنّته «حماس» وأسفر عن مقتل قرابة 1200 إسرائيلي وخطف المئات، مثّل أسوأ إخفاق أمني وعسكري في تاريخ إسرائيل الحديث، وأظهر هشاشة المؤسسة التي طالما قدّمها نتنياهو كحصن منيع. التوقع العام كان أن هذه الحرب ستكون خاتمة مسيرته السياسية الطويلة، وأن الضغط الشعبي والسياسي سيجبره على الاستقالة أو على الأقل تقديم تنازلات كبرى في سبيل وقف إطلاق النار. لكن ما جرى كان عكس ذلك تماماً.
إسرائيل تعاني من الضغط الدولي
في الأشهر التالية، استخدم نتنياهو الحرب كرافعة لإعادة إنتاج نفسه سياسياً، متحدياً كل التوقعات، وموظفاً أدوات السلطة التي لا تزال بين يديه لتأجيل الحساب واستثمار الدم والدمار في تعزيز بقائه السياسي. لم يكن الهدف إنهاء الحرب بالسرعة الممكنة، بل استخدامها كورقة تفاوض داخلية تضمن استمرار حكومته، وتُلهي الرأي العام عن محاكمته الجارية بتهم الفساد، وتؤجل أي مساءلة وطنية عن الإخفاق الذي سبَق الحرب.
إحدى اللحظات المفصلية التي كشفت بوضوح أولويات نتنياهو، كانت في أبريل 2024، حين بدا أنه قريب من التوصل إلى هدنة من شأنها إيقاف القتال لمدة ستة أسابيع، وفتح الباب لمفاوضات دائمة مع «حماس» عبر الوسطاء المصريين. كانت الخطة، التي أعدّها مكتبه بسرية، تشمل إطلاق أكثر من ثلاثين رهينة، وخلق مساحة سياسية للتفاوض، وربما إعادة شيء من التوازن الداخلي لإسرائيل التي بدأت تعاني من الضغط الدولي والانقسام الداخلي. لكن عند لحظة الحقيقة، وأمام تهديد مباشر من وزرائه اليمينيين، خصوصاً بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذين لوّحوا بإسقاط الحكومة إن أُقرت الخطة، اختار نتنياهو إنقاذ ائتلافه على حساب أرواح الرهائن ومستقبل الحرب.
تكلفة بشرية وسياسية باهظة
بهذا القرار، لم يفوت فقط فرصة استراتيجية لتهدئة النزاع واستعادة بعض الرهائن، بل رسّخ نمطاً من الأداء السياسي يرى في الحرب وسيلة للبقاء، لا أزمة يجب حلها. وهو ما أكده لاحقاً في مواقف أخرى، حين تجاهل توصيات جنرالاته بأن لا فائدة عسكرية من استمرار العمليات، وواصل الدفع نحو تصعيد في رفح، ثم خرق الهدنة في مارس 2025.
هذا التمديد المتعمد لأمد الحرب، كانت له تكلفة بشرية وسياسية باهظة. كل أسبوع تأخير كان يعني سقوط مئات القتلى الفلسطينيين، وتفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع، وفقدان رهائن جدد داخل الأسر. كما تسبب ذلك في تصعيد الغضب الدولي تجاه إسرائيل، وتحول التعاطف العالمي معها إلى اتهامات مباشرة بالإبادة الجماعية، تدرسها حالياً محكمة العدل الدولية، فضلاً عن مساعي المحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.
احتجاجات غير مسبوقة
لكن في مقابل تلك الكلفة، كان نتنياهو يراكم مكاسب سياسية داخلية. نجح في منع إجراء أي تحقيق رسمي حول إخفاق أكتوبر، وتمكن من تأجيل مواجهته مع القضاء، فيما تواصل حكومته الضغط لعزل النائب العام المشرف على محاكمته. واستعاد زمام المبادرة السياسية، مستفيداً من الحرب مع إيران في يونيو 2024 التي منحته «لحظة مجد» دعائية، ساهمت في إعادة بناء صورته كقائد أمني صلب.
المفارقة العميقة تكمن في أن نتنياهو، الذي واجه احتجاجات غير مسبوقة في الداخل الإسرائيلي قبل اندلاع الحرب بسبب محاولاته تقويض استقلال القضاء، وجد في الحرب فرصة لصياغة سردية جديدة عن نفسه، وتحويل مسار تاريخه السياسي من انحدار محتوم إلى صعود مباغت. فبدلاً من الانسحاب تحت ضغط الاحتجاجات أو الفشل الأمني، استخدم الحرب لتجميد السياسة الداخلية، وتوسيع نفوذه، والعودة كلاعب رئيس في المنطقة، حتى مع تصاعد الغضب الدولي.
حسابات سياسية شخصية
تجربة نتنياهو مع حرب غزة ليست مجرد حالة من التوظيف السياسي التقليدي للنزاعات، بل مثال صارخ على كيف يمكن لزعيم مأزوم أن يستخدم الحرب كأداة للبقاء، ولو على حساب أرواح المدنيين، وتحطيم المسار الدبلوماسي، وتوريط دولته في اتهامات جنائية على المستوى الدولي. وهو ما يجعل من مسار هذه الحرب ليس فقط فصلاً من فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل مرآة عاكسة للأزمة العميقة في بنية النظام السياسي الإسرائيلي، حين يصبح البقاء في السلطة هدفاً يتقدم على كل القيم الأخرى، بما في ذلك الحياة والسلام والعدالة.
السؤال الآن لم يعد فقط عن كيف تنتهي حرب غزة، بل عن الكلفة السياسية والإنسانية التي سيدفعها الجميع – فلسطينيين وإسرائيليين على حد سواء – نتيجة قرارات اتُخذت لا لمصلحة الأمن القومي، بل لحسابات سياسية شخصية، في لحظاتٍ كان من الممكن فيها إنقاذ الأرواح وفتح باب الأمل.