تُظهر السياسات الأوروبية الأخيرة تجاه الهجرة الإفريقية تناقضًا حادًا بين الخطاب الرسمي الذي يروج لـ “شراكات عادلة” وواقع تنظيمي يقيم جدرانًا مرتفعة أمام طالبي التأشيرات من القارة الإفريقية. ففي وقت تعلن فيه ألمانيا، مثلًا، عن رغبتها في تعزيز الهجرة المنتظمة وتوسيع التبادل الأكاديمي، تصطدم هذه الرغبة بعوائق بيروقراطية وأمنية معقدة، تُظهر بوضوح كيف أن قوانين الهجرة لا تُطبَّق على الجميع بالسوية ذاتها.
التمييز لا يكمن دائمًا في قرارات الرفض الفردية، بل في تصميم اللوائح ذاتها. فالمهاجر الإفريقي الراغب في الدراسة أو العمل في أوروبا يواجه سلسلة من الشروط التي تتجاوز قدرته في كثير من الأحيان، من دعوات رسمية، إلى إثباتات مالية، وتأمين صحي بتكاليف باهظة، بينما تُمنح الامتيازات نفسها لمواطني دول أوروبية بمجرد جواز السفر.
المساواة في السفر… وهم مُضلل
المفارقة الأكثر إيلامًا أن المواطن الأوروبي يمكنه السفر إلى معظم البلدان الإفريقية دون عناء يُذكر، بينما يحتاج الإفريقي إلى خوض مسار شائك، غالبًا ما ينتهي بالرفض. ففي عام 2022 وحده، تم رفض 30% من طلبات تأشيرة شنجن المقدمة من إفريقيا، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 17.5%، وهو ما يعكس خللًا بنيويًا لا يمكن تبريره بالمعايير الإدارية وحدها.
الأمر لا يتوقف عند الرفض فحسب، بل يمتد إلى واقع اقتصادي استغلالي؛ إذ جمعت دول الاتحاد الأوروبي نحو 130 مليون يورو من رسوم التأشيرات المرفوضة، منها ما يقرب من 42% جاءت من القارة الإفريقية. هكذا، أصبحت سياسة التأشيرات وسيلة ضمنية للربح، لا مجرد أداة لتنظيم الهجرة.
تراجع الطرق النظامية.. وتصاعد البدائل الخطرة
منذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأت فرص الهجرة القانونية من إفريقيا إلى أوروبا في الانكماش، مقابل تصاعد ملحوظ في الهجرة غير النظامية، لا سيما عبر البحر الأبيض المتوسط. وبينما كانت الغالبية العظمى من المهاجرين الأفارقة تدخل أوروبا بطريقة قانونية حتى عام 2012، انخفض هذا الرقم بنحو النصف في العقد التالي، ليتحوّل كثيرون إلى البحث عن طرق بديلة محفوفة بالمخاطر.
هذا التوجه ليس مجرد نتيجة لغياب السياسات، بل هو انعكاس مباشر لفشل السياسات الحالية في الاستجابة لاحتياجات حقيقية لهجرة آمنة ومنظمة. وتشير تقارير إلى أن أكثر من 31 ألف مهاجر فقدوا حياتهم في المتوسط منذ عام 2014، في رحلات غير نظامية نحو أوروبا، وهي مأساة لا يمكن فصلها عن سياسات الغلق المنهجي للمسارات الآمنة.
استعمار جديد بلغة قانونية
تكشف الكاتبة فرانزيسكا زانكر أن ما نراه ليس مجرد قوانين هجرة، بل منظومة متكاملة من الهياكل العنصرية المتوارثة عن الإرث الاستعماري الأوروبي. فمن خلال المقارنة بين جوازات السفر، نكتشف تفاوتًا صارخًا: الألمان يمكنهم السفر دون تأشيرة إلى 192 دولة، بينما لا يستطيع التنزانيون دخول أكثر من 73 دولة من دون تصريح. هذا التفاوت لا يُعبّر عن واقع اقتصادي فحسب، بل عن نظام عالمي يُملي من يُسمح له بالتحرك ومن يُقيَّد.
ويُحذّر بعض الباحثين من أن الهجرة اليوم تُدار بذات المنطق الذي صاغ اتفاقية جنيف للاجئين في منتصف القرن الماضي، والتي صُمّمت بالأساس لحماية اللاجئين الأوروبيين فقط. أما الأفارقة، فما زالوا يخضعون لنظام يشتبه في دوافعهم، ويفترض دومًا أنهم خطر أمني أو عبء اقتصادي.
شراكات الهجرة.. إنصاف مفقود
في الوقت الذي تُروَّج فيه الاتفاقيات الثنائية بين الدول الأوروبية والإفريقية على أنها مربحة للجميع، يكشف الواقع أن المستفيد الأكبر منها هو الدول الأوروبية ذاتها. خذ مثلًا الاتفاقية الأخيرة بين ألمانيا وكينيا، والتي تسمح باستقدام مهنيي تكنولوجيا المعلومات دون مؤهلات رسمية. ورغم ذلك، يبقى الغموض قائمًا حول عدد المستفيدين الحقيقيين من الكينيين، ومدى تأثير هذا النزيف البشري على بلد يعاني أصلًا من أزمة بطالة ونقص حاد في الكفاءات الطبية.
تبدو هذه السياسات وكأنها استمرار لمعادلة استعمارية قديمة: تُستخرج الكفاءات والموارد من إفريقيا لخدمة اقتصادات أوروبا، تحت لافتات قانونية وتنظيمية حديثة. ففي كينيا، مثلًا، لا يوجد سوى طبيب واحد لكل أكثر من 5 آلاف مواطن، وهي نسبة كارثية تفوق بكثير توصيات منظمة الصحة العالمية. ومع ذلك، لا تزال الدول الأوروبية تفتح أبوابها لأطباء إفريقيا بينما تغلقها في وجه طلابها.
نحو عدالة تنقل حقيقية
في ظل هذا المشهد، لا يمكن اعتبار الهجرة من إفريقيا إلى أوروبا مسألة تنظيم إداري بحت. بل هي نتاج لعلاقات غير متكافئة، وتاريخ لم يُراجع بصدق، وسياسات لا تزال تُدار بعقلية التمييز الهيكلي. إن الحديث عن “الهجرة المنتظمة والآمنة” لن يكون ذا معنى حقيقي ما لم تُراجع أوروبا جذريًا قوانينها، وتفكك هياكل الامتياز العنصري في نظام التأشيرات، وتفتح مسارات عادلة ومفتوحة أمام الشراكة لا التبعية.