تبدو مواقف حركة “حماس” من المقترح الذي قدّمه المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف لوقف إطلاق النار في غزة متأرجحة بين التحفّظ العلني والدراسة الميدانية، ما يعكس تعقيد الموقف السياسي الذي تجد الحركة نفسها فيه حالياً. فرغم مرور ما يزيد على سبعة أشهر من القصف والدمار والمعاناة الإنسانية غير المسبوقة في القطاع، لا تزال “حماس” تبدي تردداً واضحاً في إعطاء الضوء الأخضر لأي اتفاق لوقف إطلاق النار لا يضمن بشكل صريح ومباشر تحقيق عدد من الشروط التي باتت بمثابة “خطوط حمراء” بالنسبة لها.
تكرار سيناريو جنوب لبنان
هذا التردد، أو ما يُسمّى بـ”التعنت” في الخطاب الإعلامي، يمكن قراءته من زوايا عدّة. من جهة، يبدو أن “حماس” تدرك جيداً أن أي وقف لإطلاق النار يُعيد الأمور إلى “الوضع القائم” دون ضمانات حقيقية، سيُعتبر في نهاية المطاف نصراً استراتيجياً لإسرائيل، وسينعكس على الحركة كخسارة سياسية، لا سيما إذا لم يكن الاتفاق مصحوباً بوقف دائم للعمليات العسكرية، وتثبيت حالة جديدة تعزز شرعيتها كسلطة في القطاع.
وأعربت الحركة عن قلقها من صياغة هدنة الـ60 يوماً، التي بدت فضفاضة لدرجة أنها قد تتيح لإسرائيل تكرار سيناريو جنوب لبنان، حيث يُسجل وقف للنار على الورق، لكن تستمر العمليات العسكرية تحت ذرائع أمنية. هذا النموذج هو بالضبط ما تخشاه “حماس”، لأنه سيُبقي غزة رهينة لتقديرات الجيش الإسرائيلي، وسيقوّض فعلياً قدرة الحركة على الحكم أو حتى البقاء.
حرب وجود
لكن، ورغم هذا الحذر، لا يمكن إنكار أن “حماس” واقعة تحت ضغط هائل، داخلياً وخارجياً. حجم الدمار في غزة، الأعداد الضخمة من القتلى والجرحى، الانهيار الكامل للخدمات، والمأساة الإنسانية التي تزداد كل يوم، كلها عوامل تضع القيادة في مأزق أخلاقي وسياسي. من الصعب الدفاع عن استمرار المواجهة دون أفق، في وقت تُدمّر فيه بنية المجتمع الغزّي بأكمله.
السؤال الذي يطرحه الكثيرون: لماذا لا تبادر “حماس” إلى القبول بالمقترح وإنهاء الحرب؟ الجواب لا يكمن فقط في الرغبة بإنقاذ ما تبقّى من قدرتها العسكرية أو من قدرتها على الحكم، بل في شعورها أن هذه الحرب هي “حرب وجود” بالنسبة لها. ببساطة، ترى الحركة أن أي اتفاق لا يضمن استمرار سيطرتها على غزة، وعودة الأسرى الفلسطينيين، ورفع الحصار بشكل فعلي—not مجرد وعود غربية—هو بمثابة نهاية سياسية لها.
البقاء السياسي للحركة
هنا يصبح واضحاً أن الموقف من المقترح الأميركي ليس ناتجاً فقط عن حسابات ميدانية، بل عن استراتيجية بقاء. فالحركة تسعى من خلال تعقيد عملية القبول، أو المطالبة بتعديلات وتفسيرات وضمانات، إلى “تثبيت معادلة” جديدة تحفظ لها الحد الأدنى من الشرعية والسيطرة. وكل بند في المقترح يتم قراءته من زاوية: هل يُمكّن إسرائيل من الإطاحة بها؟ هل يعطيها غطاء لإعادة اجتياح غزة؟ أم يمنح “حماس” مساحة لإعادة ترتيب أوراقها الداخلية؟
من ناحية أخرى، فإن تزامن هذه المواقف مع الهجوم الإسرائيلي الإعلامي والدبلوماسي على فرنسا ورئيسها ماكرون، يعكس أن إسرائيل نفسها قلقة من تحوّل المزاج الدولي لصالح فكرة وقف الحرب، وربما ضاق هامشها الزمني لإنهاء المهمة العسكرية كما تريد. وهذا ما قد تستغله “حماس” أيضاً كأداة ضغط للحصول على أفضل صفقة ممكنة قبل أن تضع الحرب أوزارها.
لا يمكن توصيف موقف “حماس” بالتعنت فقط، بل هو جزء من معادلة شديدة التعقيد، تتحرك فيها الحركة بين محاولة البقاء السياسي، وتجنب “استسلام ناعم” يُعيدها إلى خانة العزلة، وبين الاستجابة للضغوط الشعبية والإنسانية الهائلة التي تزداد كل يوم. وبين هذه وتلك، تبقى غزة هي الضحية الأكبر، بينما تُمتحن إرادة الأطراف الكبرى في الوصول إلى تسوية حقيقية تُنهي الحرب لا أن تؤجلها فقط.