تصريحات القيادي في حركة “حماس”، باسم نعيم، والتي وصف فيها مفاوضات وقف إطلاق النار بأنها “بلا معنى” في ظل ما أسماه بـ”حرب التجويع والإبادة”، تفتح الباب لتحليل سياسي وإنساني معقد، يتداخل فيه البعد الإنساني مع البعد الاستراتيجي والعسكري. فهذه التصريحات لا تُقرأ فقط على مستوى الشعارات السياسية أو التعبير عن غضب إنساني، بل يمكن فهمها أيضًا كمحاولة ضغط مركبة تهدف إلى كسر الطوق الخانق على غزة، وتحقيق أهداف تكتيكية لصالح الحركة على الأرض.
تأمين الإمدادات
في الظاهر، تنطلق تصريحات نعيم من موقف إنساني يدين الحصار المفروض على قطاع غزة، خصوصًا مع تصاعد التقارير الدولية التي تتحدث عن نقص حاد في الغذاء والماء والدواء. استخدام عبارات مثل “حرب التجويع” و”جريمة الإبادة” يضع الخطاب في إطار أخلاقي وإنساني يحاول استمالة الرأي العام العالمي، ودفع الدول الكبرى ومؤسسات حقوق الإنسان للتدخل الفوري من أجل وقف العمليات العسكرية أو على الأقل فتح ممرات إنسانية.
لكن في العمق، لا يمكن فصل هذا الخطاب عن الواقع العملياتي على الأرض. فقد خسرت “حماس” في الأشهر الأخيرة كثيرًا من مخازنها ومصادر تمويلها، وتضررت بنيتها التحتية العسكرية واللوجستية بسبب الحصار والتضييق الإسرائيلي المتصاعد. وبالتالي، فإن المطالبة بإدخال مساعدات إنسانية “دون شروط”، أو التلويح بوقف التعامل مع مقترحات التهدئة ما لم يتم إدخال الغذاء والماء، يبدو أيضًا مدفوعًا بحاجة داخلية حقيقية لإعادة تأمين الحد الأدنى من الإمداد – ليس فقط للمدنيين، بل أيضًا لعناصر الحركة، الذين يعتمدون على ذات القنوات اللوجستية.
هل تستغل حماس الوضع الإنساني؟
هنا يظهر جانب إشكالي في أداء “حماس”. فمن جهة، لا شك أن قطاع غزة يعيش كارثة إنسانية حقيقية، يتحمل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الأكبر عنها بسبب الحصار والهجمات المتكررة، ولكن من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن “حماس” تُسيّس هذه المأساة، وتستخدمها كورقة ضغط سياسي وتفاوضي. إذ سبق أن وُثق في أكثر من مرة أن المساعدات التي تدخل إلى القطاع لا تصل بالضرورة إلى مستحقيها، بل قد تُخزن أو يُعاد توجيهها لخدمة الأجنحة المسلحة.
هذا الاستخدام المزدوج للمأساة – كصرخة إنسانية وكأداة تفاوضية – يضعف من صدقية الخطاب، ويمنح خصوم “حماس” ورقة دعائية قوية يبررون بها الاستمرار في التصعيد والحصار. وفي الوقت نفسه، يُضعف ثقة المجتمع الدولي، الذي صار أكثر حذرًا في التعامل مع الحركة باعتبارها طرفًا غير نزيه في إدارة الأزمات الإنسانية.
تصريحات “حماس” تحمل رسالة مزدوجة: إدانة أخلاقية لما يجري في غزة من مأساة إنسانية لا يمكن إنكارها، ومحاولة تكتيكية لإعادة بناء قدراتها بعد تضييق الخناق عليها. النقد الموضوعي يقتضي الاعتراف بمسؤولية الاحتلال في الكارثة الإنسانية، لكنه لا يُعفي “حماس” من مسؤوليتها في تسييس هذه المعاناة، واستثمارها بطريقة قد تُضر أكثر مما تنفع بالمدنيين الذين تزعم حمايتهم.