البيان الذي وقّع عليه 160 من الأدباء والمثقفين الإسرائيليين، تحت عنوان “نتنياهو ليس إسرائيل – حكومته لا تمثلنا”، يُعد لحظة فارقة في الحراك الثقافي والسياسي داخل إسرائيل، وسط حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والانقسام الداخلي التي فجّرتها الحرب المستمرة على غزة. فهذا البيان لا يقتصر فقط على كونه اعتراضًا على الحرب، بل هو إعلان تمرّد أخلاقي وسياسي من داخل النخبة الثقافية الإسرائيلية ضد ما تعتبره انحرافاً خطيراً في سياسات الدولة وتوجهاتها.
فضح السياسات الإسرائيلية
اختيار الكتّاب والمثقفين التوجه ببيانهم إلى الإعلام العالمي، بدلاً من الاكتفاء بالساحة الداخلية، يعكس نية واضحة في فضح السياسات الإسرائيلية أمام الرأي العام الدولي، والتنصل من الانتهاكات المستمرة التي تمارسها الحكومة في قطاع غزة، والتي أدت إلى مقتل أكثر من 15,600 طفل حتى الآن. هذه الأرقام لم تعد مجرد إحصائيات تُمرر في نشرات الأخبار، بل تحوّلت في هذا البيان إلى مركز الثقل الأخلاقي للاعتراض: “حرب يُقتل فيها هذا العدد من الأطفال لا يمكن أن تُسمى حربًا أخلاقية”، بحسب ما جاء في نصه.
أهمية هذا البيان لا تكمن فقط في مضمونه، بل أيضاً في أسماء الموقعين عليه. دافيد غروسمان، أورلي كاستل-بلوم، يهوشواع سوبول، وتسرويا شاليف، هم من أبرز الأصوات الأدبية التي كانت لعقود جزءاً من المشهد الثقافي الإسرائيلي الرسمي، وقد نُشرت أعمالهم في الداخل والخارج، واعتُبروا وجوهاً تُعبّر عن التعددية داخل إسرائيل. توقيعهم على بيان من هذا النوع يُحدث شرخًا داخل المؤسسة الثقافية ويضعف الرواية الرسمية التي تُروّج للحرب على أنها “ضرورة وجودية”.
تقويض النظام القضائي الإسرائيلي
اللافت أيضاً هو الربط الذي أقامه المثقفون بين الحرب الجارية ومحاولات نتنياهو السابقة لتقويض النظام القضائي الإسرائيلي، وهو ما يعكس وعيًا سياسيًا عميقًا لدى هذه النخبة بأن الأزمة الحالية ليست فقط أزمة أمن، بل أزمة قيادة وهوية وشرعية سياسية. فالبيان يرفض استمرار الحرب بوصفها “حرب تضليل”، لأنها غير مصحوبة بأي أهداف سياسية، في إشارة إلى أن الحكومة الحالية توظف الحرب كأداة لإطالة عمرها السياسي، لا أكثر.
واحدة من أهم الرسائل الضمنية التي حملها البيان، أن الرأي العام الإسرائيلي قد لا يكون موحدًا خلف الحكومة كما تُصوّر تل أبيب في خطابها الإعلامي. بل إن جزءاً من هذا المجتمع، تحديدًا من نخبه الثقافية، يرى أن هذه الحرب تمثل خروجًا عن القيم الأساسية التي يُفترض أن تحكم سلوك أي دولة ديمقراطية. بل إن هؤلاء المثقفين لا يكتفون بموقفهم النقدي، بل يُعلنون تصميمهم على “الحفاظ على الأمل لكلا الشعبين”، في إشارة نادرة إلى الاعتراف بالحق الفلسطيني ضمن خطاب إسرائيلي داخلي.
السياق الذي جاء فيه البيان يُضفي عليه دلالات إضافية. فبعد استئناف الحرب في 18 مارس/آذار 2025، نتيجة ما وصفه المثقفون بخرق إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار وعدم التزامها باتفاق تبادل الأسرى، تحوّل الموقف من صمت إلى مواجهة علنية. المثقفون هنا لا ينكرون هول ما وقع في 7 أكتوبر 2023 من مجازر في النقب الغربي، لكنهم يميزون بوضوح بين تلك اللحظة وبين الحرب المفتوحة حالياً، والتي يرون أنها فقدت بوصلتها الأخلاقية وتحولت إلى مشروع قمع جماعي لا يخدم سوى استمرار حكم نتنياهو.
حراك ثقافي
هذا البيان لا يمثل أول تحرّك من نوعه، بل هو امتداد لحراك ثقافي أوسع بدأ منذ محاولات نتنياهو تمرير تعديلاته القضائية، وتطوّر لاحقاً إلى تحركات علنية تطالب بوقف الحرب، وتؤيد إعادة الأسرى، وتنادي بمساءلة الحكومة. ما نشهده الآن هو تصعيد لهذا الحراك، ونقله من خانة النقد السياسي إلى خانة العصيان الأخلاقي، في مجتمع تتعاظم فيه الأصوات التي ترفض استمرار الحرب بوصفها مدمرة للسلام، وللضمير، ولما تبقى من صورة إسرائيل أمام العالم.
هذا الصوت، وإن بقي محصوراً حتى الآن ضمن الدوائر الثقافية، إلا أنه قد يمهّد لموجات أوسع من الرفض الشعبي، خاصة إذا استمرت الحرب في إنتاج الكارثة ذاتها دون نتيجة سياسية واضحة. وفي بلد يعرف أن النخبة الثقافية كانت تاريخياً مؤشراً على تحولات الرأي العام، فإن هذه الرسالة قد تُقرأ في تل أبيب على أنها بداية تمرّد لن يبقى في حدود الورق.