بلغ الوضع في غزة، مرحلة من الانهيار الشامل، ليس فقط في البنية التحتية أو الخدمات، بل في أساسيات الحياة نفسها. ورغم مرور يومين على إعلان إسرائيل عن تخفيف جزئي للحصار المفروض منذ أكثر من 11 أسبوعاً، فإن شيئاً لم يتغير على أرض الواقع بالنسبة للمدنيين. لا مساعدات وصلت، لا طحين وُزِّع، لا مستشفيات تلقت إمدادات، ولا مطابخ خيرية تمكّنت من إعادة فتح أبوابها. ما يجري في القطاع لا يمكن اعتباره أزمة إنسانية عابرة، بل هو فشل مزدوج، أخلاقي من جهة، وتنفيذي من جهة أخرى، يُفاقم حالة انعدام الأمن ويدفع بالمجتمع إلى حافة الفوضى.
القيود الإسرائيلية على توزيع المساعدات
الحديث عن دخول شاحنات عبر معبر كرم أبو سالم يبقى بلا معنى إن كانت تلك الشاحنات لا تتجاوز نقاط التحميل، ولا تصل إلى من يحتاجها فعلًا. فالقيود الإسرائيلية على توزيع المساعدات داخل القطاع، بحجة انعدام الأمن، تجعل هذا الفتح المزعوم للمعبر أشبه بعملية تجميل إعلامية أكثر منها تحولاً حقيقياً في السياسات. المساعدات قد تدخل الورق، لكنها لا تدخل القلوب ولا الأمعاء الخاوية ولا خزانات المستشفيات الفارغة.
الفراغ الذي تركه الحصار والانهيار الإداري وانعدام السلطة الفعلية على الأرض، فتح المجال لظواهر خطيرة مثل السرقة والنهب، ليس بدافع الجريمة، بل بدافع البقاء. في مجتمع جائع، يصبح الخبز أثمن من القانون، ويصبح الصراع على كيس طحين مشروعًا في عيون من لم يأكل منذ أيام. وهنا، تتحول المساعدات من رمز للنجاة إلى محفز للفوضى. هذا الوضع يُعيد غزة إلى مشهد ما بعد الكوارث، حيث انهيار النظام لا يُقاس فقط بعدد المباني المدمرة، بل بعدد الناس الذين لم يعودوا يثقون بأن الغد سيكون مختلفاً.
انعدام الأمن داخل غزة
انعدام الأمن اليوم داخل غزة ليس ناتجًا عن وجود مسلحين فقط أو غارات إسرائيلية، بل عن فقدان تام للثقة في أي منظومة، سواء كانت محلية أو دولية. السكان يشعرون أنهم تُركوا وحدهم في مواجهة الجوع والخوف والبرد، وأن العالم يتحدث كثيراً عن “ضرورة إدخال المساعدات”، بينما لا يرى الناس شيئًا من هذا التحدث على موائدهم الفارغة.
الفوضى التي تهدد بتفجّرها في الشارع الغزّي ليست سيناريو بعيداً، بل واقع يومي بدأ يتسلل إلى المخيمات والمدن، مع تراكم الإحباطات وفقدان الأمل، وانتشار الشعور بأن البقاء لم يعد مضمونًا حتى لساعات. في بيئة كهذه، تصبح أي محاولة توزيع غير مؤمنة للمساعدات بذاتها تهديداً إضافياً، وتزيد من احتمالية الاشتباك المجتمعي على ما تبقى من فتات.
صناعة كارثة إنسانية
العقبة الأهم اليوم لم تعد في شاحنات تقف على أبواب غزة، بل في غياب ممرات إنسانية فعلية، وضمانات أمنية داخلية، وآليات واضحة للتوزيع بإشراف أممي فعّال. دون ذلك، فإن كل إعلان عن تخفيف الحصار يبقى بلا جدوى، بل يزيد من الإحباط، لأن الوعود بالنجاة تكون أحيانًا أقسى من الجوع ذاته عندما تُكسر أمام عيون الأطفال الذين ينتظرون طحيناً لا يأتي.
ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة طارئة، بل انهيار مجتمعي يقترب من أن يصبح غير قابل للإصلاح. وإذا لم تتحرك الأطراف المعنية فورًا، فإن المجتمع الدولي سيكون شريكًا في صناعة كارثة إنسانية لن تُنسى.