تشهد الضفة الغربية المحتلة ظاهرة استيطانية جديدة آخذة في التوسع السريع تحت عنوان “الاستيطان الرعوي”، وهو نمط جديد من السيطرة على الأراضي يتجاوز الشكل التقليدي للمستوطنات ويعتمد على البداوة المنظمة لتكريس الاحتلال وفرض وقائع جغرافية وديموغرافية على الأرض. ووفق معطيات إسرائيلية رسمية، فإن عدد هذه البؤر وصل إلى 133 مزرعة رعوية حتى عام 2025، بعد أن كان العدد صفرًا في 2021، ما يعكس تسارعًا لافتًا في استراتيجية الضم الزاحف.
“شبيبة التلال”: الرعوية في خدمة التطرف الأيديولوجي
أبرز من يقود هذا المشروع هم مستوطنون متطرفون ينتمون إلى تنظيم “شبيبة التلال”، المصنّف إرهابيًا، والذين يوظفون أساليب جديدة من خلال تربية الأغنام والأبقار لفرض وجودهم على الأراضي الفلسطينية، تحت حماية مباشرة وغير مباشرة من جيش الاحتلال، وبمباركة من أطراف سياسية نافذة داخل الحكومة الإسرائيلية. هذا النوع من الاستيطان لا يحتاج إلى قرارات رسمية أو مصادقات تنظيمية، بل ينمو كسرطان صامت فوق التلال والجبال، ما يمنح المستوطنين أفضلية جغرافية لفرض السيطرة على آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية والجبلية الفلسطينية.
جبل النبي يونس: قمة جديدة للاستيطان
في تطور خطير ومعبّر عن هذا التمدد، أقام مستوطنون إسرائيليون اليوم الاثنين بؤرة استيطانية جديدة على قمة جبل النبي يونس في بلدة حلحول شمال الخليل، وهي أعلى قمة في الضفة الغربية، بحسب نائب رئيس بلدية حلحول، خليل الشطريط. وذكر الشطريط أن المستوطنين نصبوا خيامًا وجلبوا معدات وشرعوا بالسيطرة على مئات الدونمات من أراضي البلدة. هذه البؤرة تمثل نموذجًا واضحًا للاستيطان الرعوي، حيث تُفرض السيطرة أولًا بحجة الرعي، ثم تتحول الخيام إلى منازل، ومن ثم إلى واقع دائم يصعب تغييره.
ما وراء الخبر: استراتيجية “الهدوء القاتل”
الاستيطان الرعوي يمثل تحولًا استراتيجيًا في أدوات إسرائيل لفرض الضم الفعلي على الضفة الغربية، دون الحاجة إلى إعلان رسمي. هذا التوسع يتم بعيدًا عن الأضواء، ولا يُثير الجدل السياسي كما تفعل مشاريع الاستيطان الكبرى، لكنه يخلق واقعًا أكثر خطورة وعمقًا، لأنه يمنع بشكل عملي قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا. كما أن هذه البؤر، بحكم طبيعتها، تكون غالبًا في مناطق (ج) الخاضعة لسيطرة الاحتلال الكاملة، ما يجعل التصدي لها شبه مستحيل في ظل التخاذل الدولي، والصمت الإقليمي.
دعم رسمي وغطاء عسكري
من الناحية السياسية والعسكرية، لا يمكن تفسير هذا التمدد إلا على أنه سياسة دولة، وإنْ اتخذت طابعًا غير رسمي. الدعم اللوجستي، والحماية الأمنية، والتجاهل القضائي، كلها تعكس تورطًا مباشرًا من المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. المستوطنون في هذه البؤر غالبًا ما ينفذون اعتداءات ضد الفلسطينيين، ويحرمونهم من الوصول إلى أراضيهم، بينما يغض جيش الاحتلال الطرف أو يتدخل لصالحهم.
إحكام القبضة على الضفة
الاستيطان الرعوي ليس مجرد تحول في أسلوب السيطرة على الأرض، بل هو تطور خطير يحمل أبعادًا استراتيجية تهدف إلى إحكام القبضة على الضفة الغربية عبر أدوات ناعمة في ظاهرها، وعنيفة في جوهرها. الصمت الدولي والتراخي الفلسطيني في مواجهة هذه الظاهرة يفتحان الباب واسعًا أمام تكريس واقع استيطاني لا رجعة فيه، حيث تتحول التلال والمراعي إلى مستوطنات دائمة، وتُدفن آمال الدولة الفلسطينية تحت أقدام الماشية وخيام “شبيبة التلال”.