بعد قرابة عقد من التصويت التاريخي على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تتجه بريطانيا بخطى حذرة ولكن واثقة نحو إعادة بناء جسور التعاون مع بروكسل. التفاهم الجديد الذي أُعلن عنه اليوم الإثنين، والذي يشمل قطاعات الدفاع والتجارة والثروة السمكية، لا يعكس فقط تصحيحًا لمسار العلاقة بين الجانبين، بل أيضاً اعترافاً ضمنياً من لندن بأن البريكست لم يكن نهاية الروابط بل بداية إعادة تعريفها.
شبح ترمب… الدافع غير المتوقع للتقارب
من المفارقة أن يكون دونالد ترمب، الرئيس الأميركي السابق، هو العامل الخفي الذي أجبر لندن وبروكسل على تجاوز خلافاتهما. فقرارات ترمب الحمائية، والرسوم الجمركية التي فرضها، إلى جانب خطاباته المتكررة حول انسحاب أميركا من الالتزامات الدفاعية تجاه أوروبا، دفعت الأوروبيين إلى التفكير مجدداً في مسألة “الاكتفاء الاستراتيجي”، وهو ما جعل التعاون مع بريطانيا، ذات الثقل العسكري والدبلوماسي، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
على وقع هذه التطورات، وجدت حكومة كير ستارمر، التي تميل بطبعها إلى الخط الأوروبي، أرضاً خصبة لإعادة إحياء العلاقات. لم يعد من المنطقي – في نظر الكثيرين في لندن وبروكسل – أن يظل الطرفان رهينة لجراح الماضي في عالم يتغيّر بسرعة ويعيد ترتيب موازين القوة.
دفاع وأمن وغذاء… الصفقة تشمل كل شيء تقريباً
الاتفاق المبدئي الذي تم التوصل إليه اليوم يشمل عناصر جوهرية تعكس رغبة الطرفين في شراكة حقيقية: مشاريع دفاعية مشتركة، تسهيلات في حركة الأغذية والمنتجات الزراعية، استخدام أكثر مرونة للبوابات الإلكترونية في المطارات الأوروبية بالنسبة للبريطانيين، وتفاهمات جديدة في قطاع الصيد البحري، الذي كان دائماً من أعقد الملفات بين لندن وبروكسل.
تُقدّر الحكومة البريطانية أن هذه الخطوة ستضيف نحو 9 مليارات جنيه إسترليني إلى الاقتصاد البريطاني بحلول عام 2040، وهو رقم قد لا يبدو فورياً أو مثيراً للدهشة، لكنه يبعث برسالة طمأنة للمستثمرين ويُظهر نية الحكومة البريطانية الجديدة في السير نحو التكامل الاقتصادي لا التخاصم السياسي.
رهان ستارمر: المصلحة فوق الأيديولوجيا
كير ستارمر، الزعيم العمالي ورئيس الوزراء الذي لطالما عارض البريكست، يدرك تماماً هشاشة المزاج البريطاني إزاء أي تقارب مع أوروبا. لكنه يراهن على أن الناخب البريطاني، المُثقل بتكاليف المعيشة وارتفاع الأسعار، لن يهتم كثيراً لشعارات نايجل فاراج ولا لصيحات “الخيانة”، بقدر ما سيهتم بقدرته على السفر بسهولة، أو شراء طعام أرخص، أو ضمان أمنه في ظل عالم لا يتوقف عن الاهتزاز.
رسالة ستارمر كانت واضحة في بيانه اليوم: آن الأوان لتجاوز المعارك القديمة والتركيز على الحلول الواقعية. لا حديث عن عودة إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن حديث صريح عن التعاون العملي والمنافع المتبادلة، وهي لغة يفهمها المواطن قبل السياسي.
شراكة بثوب جديد… ولكنها غير مكتملة بعد
التفاهم الذي جرى الإعلان عنه لا يزال في مراحله الأولى، وينتظر مصادقة رسمية من حكومات الاتحاد الأوروبي الـ27. لكن المؤشرات كلها تقول إن هناك إرادة سياسية من الجانبين لدفع هذا المسار. وربما يرى فيه الأوروبيون خطوة استراتيجية لاستعادة حليف فقدوه في لحظة سياسية مضطربة، بينما ترى فيه لندن فرصة لإعادة التموضع كقوة محورية في أوروبا من خارج الاتحاد.
ورغم أن الاتفاق لا يتضمن العودة إلى السوق الأوروبية الموحدة، إلا أنه يفتح الباب أمام مشاركة الشركات البريطانية في مشاريع دفاعية ضخمة داخل التكتل، وهي خطوة رمزية وعملية في آن واحد.
الاقتصاد أولاً… والسياسة لاحقاً
من اتفاقيات الهند والولايات المتحدة، إلى هذا التفاهم الأوروبي، تبني حكومة ستارمر سرديتها على أولوية “تحقيق مكاسب ملموسة”. لم تعد شعارات “السيادة” أو “استعادة السيطرة” هي ما يُقنع الشارع البريطاني، بل إن ما يقنعه هو القدرة على توفير الوظائف، خفض الأسعار، وضمان الأمن الغذائي والطاقة.
وبينما تُعتبر هذه الاتفاقيات خطوة على الطريق وليست نهاية المسار، فإن ما جرى اليوم قد يكون البداية الحقيقية لـ”بريكست هادئ” يتخلى عن ضوضاء الماضي، ويبحث عن صيغة أكثر نضجاً لعلاقة طالما كانت معقدة، لكنها الآن مضطرة لأن تكون واقعية.