القيادة الفلسطينية تجد نفسها اليوم أمام مفترق في مسارها السياسي والدبلوماسي، بعد الفيتو الأميركي الأخير في مجلس الأمن، الذي أسقط مشروع القرار الجزائري الداعي إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة. هذه ليست مجرد انتكاسة في أروقة الدبلوماسية، بل صفعة مباشرة لمحاولة فلسطينية متكررة لحشد الإرادة الدولية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية التي تواصل سحق غزة منذ أكثر من 20 شهراً.
إحراج الولايات المتحدة
ردّ الفعل الفلسطيني، كما عبّر عنه المندوب الدائم رياض منصور، جاء سريعاً وواضحاً في وجهه التصعيدي: التوجّه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث لا فيتو، ولا قدرة لأي دولة على تعطيل قرار أممي بغالبية الأصوات. ولكن ما يُطرح هنا ليس فقط بُعد التحرك، بل جدواه في ظل ضعف قدرة المجتمع الدولي على فرض التزامات حقيقية على إسرائيل، حتى بعد تصويت 14 دولة من أصل 15 في مجلس الأمن لصالح وقف إطلاق النار.
هذا التحرك نحو الجمعية العامة ليس الأول من نوعه، لكنه يعكس استراتيجية فلسطينية تعتمد على “إحراج” الولايات المتحدة أخلاقيًا، لا على إجبارها سياسيًا. فبعد استخدام واشنطن حق النقض مرة أخرى لصالح إسرائيل، بات واضحًا أن مجلس الأمن لم يعد ساحة فعالة لردع الاحتلال أو حماية المدنيين في غزة، ما اضطر القيادة الفلسطينية لإعادة تفعيل أدوات الضغط الرمزية التي تُتيحها الجمعية العامة.
تدويل القضية الفلسطينية
لكن التحدي الأكبر في هذا التوجه هو أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة قانونيًا، ما يجعلها أقرب إلى توصيات أخلاقية تستند إلى “الشرعية الدولية”، دون أن تحقّق بالضرورة أي تغيير ميداني مباشر. ومع ذلك، تراهن السلطة الفلسطينية على أن هذا المسار سيعيد إحياء الحراك العالمي الشعبي والحقوقي، ويُحرج حلفاء إسرائيل أمام الرأي العام، خاصة في أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
في المقابل، يبرز سؤال داخلي حاد: إلى أي حد يمكن لهذه التحركات أن تُشكّل رافعة فعلية للشعب الفلسطيني تحت النار، إذا لم تكن مدعومة بجهود ميدانية موحّدة، وإجماع وطني يعيد ترتيب البيت الفلسطيني، إذ أن الفجوة بين القيادة السياسية الفلسطينية – خصوصًا السلطة – وما يحدث فعليًا على الأرض في غزة، تزداد اتساعًا، ويُنظر إلى التحركات الأممية أحيانًا كمسكنات رمزية لا تغيّر من واقع الحرب شيئًا.
السلطة الفلسطينية تدرك أن الفيتو الأميركي هو تكرار لنمط قديم، لكنه هذه المرة جرى في لحظة غير مسبوقة من حجم الدمار وسقوط الضحايا. وهذا ما يمنح خطوتها نحو الجمعية العامة طابعًا أكثر حساسية، وربما يفتح الباب أمام مطالبات أقوى بتدويل القضية الفلسطينية من جديد، أو حتى الدفع باتجاه تعليق عضوية إسرائيل في هيئات أممية معينة، كخطوة تصعيدية رمزية.
حشد الدعم العالمي
لكن يبقى العامل الحاسم هو مدى تفاعل الدول الأعضاء مع هذا التوجه، واستعدادهم لاتخاذ مواقف متقدمة بدل الاكتفاء ببيانات الإدانة والأسف. فالفلسطينيون لم يعودوا يطالبون بالتضامن، بل باتوا يطالبون بـ”تدابير حقيقية” كما قال منصور، في إشارة إلى خطوات ملموسة كفرض العقوبات أو الاعتراف الفوري بدولة فلسطين.
الفيتو الأميركي لم يُسقط فقط قرارًا أمميًا، بل كشف مجددًا هشاشة النظام الدولي، وانحيازه في قضايا العدالة الكبرى. والقيادة الفلسطينية، رغم محدودية خياراتها، تحاول أن تحوّل هذه اللحظة إلى منصة جديدة لحشد الدعم العالمي، ليس فقط لوقف الحرب، بل لإعادة تعريف القضية الفلسطينية كأولوية إنسانية وسياسية في زمن يُختبر فيه ضمير العالم علنًا، وعلى مرأى من جثث الأطفال في غزة.