يأتي بيان حركة “حماس” الأخير الرافض لقرار الحكومة الإسرائيلية إنشاء 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، في لحظة بالغة الحساسية، تتطلب إعادة تقييم جريئة وموضوعية لمسار الحركة السياسي والعسكري، خصوصًا بعد الهجوم الذي نفذته في 7 أكتوبر 2023، والذي كان بمنزلة منعطف كارثي في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
من حيث المبدأ، فإن رفض الاستيطان والدعوة لمواجهته حق طبيعي، بل ضرورة وطنية في ظل سياسات الضم الإسرائيلية الممنهجة، والتوسع الاستيطاني الذي يضرب فكرة الدولة الفلسطينية في الصميم. ولكن حين تصدر هذه الدعوات عن حركة تسببت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في انهيار غير مسبوق للوضع الإنساني والسياسي للفلسطينيين في غزة والضفة والشتات، فإنها تُطرح بعين الريبة والتساؤل.
أين كانت الحسابات؟
هجوم 7 أكتوبر، الذي وصفته حماس بأنه رد على الحصار والاحتلال، لم يكن مدروساً لا سياسياً ولا استراتيجياً. ما نتج عنه هو دمار هائل في قطاع غزة، آلاف الشهداء، تهجير جماعي، شلل للخدمات الصحية والتعليمية، وانهيار للبنية التحتية، فضلًا عن خسارة سياسية فادحة تجسّدت في عزلة متزايدة على المستوى الدولي وتضييق في المساحات القانونية التي كانت القضية الفلسطينية تتحرك ضمنها.
وبدلاً من أن يُحرّك هذا الهجوم المياه الراكدة لصالح القضية الفلسطينية، فقد فاقم من مأساة القطاع، وأعطى لإسرائيل غطاءً سياسياً وعسكرياً غير مسبوق للاستمرار في حربها الشرسة، ليس فقط على غزة، بل على الضفة الغربية أيضاً، حيث يتم تنفيذ المشروع الاستيطاني بوتيرة متسارعة غير مسبوقة.
السلطة الفلسطينية.. تحرك دبلوماسي هادئ ومتصاعد
في المقابل، تمضي السلطة الفلسطينية، رغم ما يُوجَّه إليها من انتقادات داخلية، في تحركات دبلوماسية منظمة ومدروسة، لحشد الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وإعادة إحياء حل الدولتين. هذا التحرك لم يأتِ من فراغ، بل من واقع أن المعركة اليوم باتت على الشرعية السياسية والتمثيل الدولي، وهي معركة تدركها السلطة وتسعى لخوضها بالأدوات الممكنة، عبر التنسيق مع الدول العربية والاتحاد الأوروبي ومؤسسات الأمم المتحدة.
بينما كانت غزة تُدمر، كانت السلطة تحقق اختراقات سياسية، وتؤسس لمرحلة جديدة من الضغط الدولي على إسرائيل. لكن تلك الجهود مهددة بالفشل إذا بقيت حماس تمسك بزمام غزة من خلال سلطة موازية لا تعترف لا بقرارات الشرعية الدولية، ولا بالحلول السياسية المطروحة.
لماذا تصر حماس على البقاء في الحكم؟
الإصرار الذي تبديه حماس على الاستمرار في حكم قطاع غزة، رغم الدمار الهائل والانهيار شبه الكامل لمقومات الحياة، يكشف عن أزمة داخلية عميقة في فكر الحركة وسلوكها السياسي. فمنذ انقلابها على السلطة عام 2007، تحوّل قطاع غزة إلى “إمارة حماس”، حيث تم تهميش المؤسسات الوطنية، وإقصاء الخصوم، وربط مستقبل القطاع بأجندة سياسية غير قابلة للتحقيق، تُغذى بالشعارات أكثر من الواقعية.
هذا الإصرار لم يؤدّ إلا إلى زيادة معاناة الفلسطينيين، وتآكل وحدة القرار الوطني، وإضعاف الجبهة الفلسطينية الداخلية، في وقت تحتاج فيه القضية الفلسطينية إلى الحد الأدنى من التماسك السياسي، وإلى توحيد الاستراتيجية، لا تقسيمها.
الخطاب الحالي لحماس، والذي يدعو إلى “تصعيد المواجهة”، يبدو منفصلاً عن واقع فلسطيني ينزف في كل الجبهات. فالشعب الذي يدفع الثمن كل يوم في غزة والضفة، يحتاج إلى حماية، لا إلى مزيد من التصعيد غير المحسوب. والمقاومة، مهما كانت شرعيتها، تفقد معناها إن لم تكن في سياق وطني جامع، وتُدار برؤية سياسية ناضجة، لا بروح المغامرة.
ضعف مصداقية حماس
إن بيان حماس في وجه الاستيطان ليس محل خلاف من حيث المضمون، لكن السياق الذي يصدر فيه يضعف من مصداقيته. فحركة ما زالت تتمسك بالسلطة في غزة رغم الكارثة، ترفض تقديم مراجعة حقيقية لما حدث في 7 أكتوبر، وتستمر في خطابٍ تعبوي لا يُنتج حلولاً، لا يمكن أن تقود الفلسطينيين نحو مشروع وطني شامل.
ربما آن الأوان لحماس أن تتوقف لحظة.. لا لتراجع فقط أدواتها، بل لتفكر بجرأة: هل ما تقوم به اليوم هو حقاً ما يخدم فلسطين؟