رغم الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يعيشها الفلسطينيون في القدس الشرقية، ورغم العروض المغرية التي تنهال عليهم من الجمعيات الاستيطانية والمنظمات اليهودية – أحيانًا تصل إلى أرقام تفوق القيمة السوقية بأضعاف – ما يزال كثير من المقدسيين يرفضون بيع منازلهم أو محالهم التجارية.
السبب ليس فقط التمسك بالأرض، بل شعور عميق بأن التخلي عن هذه العقارات، ولو تحت ضغط الحاجة، هو طعنة في صميم الهوية الوطنية.
جذور الصراع: القدس بين التاريخ والجغرافيا
القدس ليست مجرد مدينة، بل محور صراع عمره أكثر من قرن. ومنذ الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية عام 1967، وُضعت المدينة في قلب المشروع الصهيوني لتهويد المكان وتغيير طابعه الديمغرافي.
وبعدما فشل الاحتلال في إجبار المقدسيين على الرحيل بالقوة، لجأ إلى أدوات أكثر نُعومة: فرض ضرائب باهظة، إغلاق المؤسسات الفلسطينية، تقويض التعليم العربي، وتضييق الخناق على البناء، ثم الانقضاض على العقارات عبر الشراء القسري أو التحايل القانوني.
ما يجري اليوم ليس معزولاً عن خطة قديمة تقوم على “تفريغ” البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها من سكانها الأصليين. وقد نُفذت هذه الخطة بشكل متدرج، عبر إنشاء بؤر استيطانية داخل أحياء عربية، ثم ربطها ببعضها عبر مشاريع تطوير مشبوهة، وصولًا إلى إنشاء حزام استيطاني يُطبق على القدس ويحوّلها إلى مدينة يهودية بالكامل في الرؤية الإسرائيلية.
“البيع خيانة”.. صوت من قلب القدس
لمنح التقرير بعدًا واقعيًا، أجرينا حوارًا افتراضيًا مع الحاج أبو جمال، صاحب متجر قديم في حارة السعدية، أحد الأحياء الأكثر استهدافًا من قبل المنظمات الاستيطانية:
س: هل عُرض عليك بيع محلك؟
أبو جمال: والله يا ابني، مش مرة ولا مرتين. عرضوا عليّ مليون ونص دولار. محلّي صغير، عمره فوق المئة سنة، ويمكن ما يسوى بالسوق ربع هالمبلغ. لكن أنا قلتلهم: “اللي يبيع عرضه، ما إله كرامة”، وصرّفتهم.
س: ما فكّرت في تحسين وضعك؟ الوضع الاقتصادي صعب.
أبو جمال: أكيد الوضع صعب، وكلنا مديونين. بس إحنا مش فقراء في الروح. إحنا هون مش عشان التجارة بس، إحنا هون حراس للبلد، ولو واحد فينا باع، بعد سنين حتلاقي القدس كلها بإيدهم.
س: شو بتقول للناس اللي بتفكر تبيع؟
أبو جمال: أقولهم: لو باعت الناس في 1948، ما كان ضلّت فلسطين. بيعك مش بس بيع طوبة، هو بيع تاريخك ودينك ومستقبل أولادك. اللي بيبيع، مش حيقدر يطالع عيونه بالمراية.
مواجهة يومية مع آلة التهويد
في كل زقاق من أزقة القدس حكاية مقاومة. رفض البيع ليس قرارًا فرديًا فحسب، بل أصبح موقفًا جماعيًا يتناقله الناس من جيل إلى جيل.
يروي أحد النشطاء أن امرأة مقدسية رفضت بيع بيتها رغم حاجتها الماسة للمال، وقالت لهم: “بعيش على الخبز والزيتون ولا ببيع شبر من وطني”.
ويقول الباحث في شؤون القدس، إياد البرغوثي، إن عمليات الشراء التي تقوم بها الجمعيات الاستيطانية هي في جوهرها استكمال لسياسات الاستعمار الناعم. “المال هنا ليس أداة للربح بل سلاح سياسي”، يضيف البرغوثي، “يُراد منه قلب المعادلة الديمغرافية لصالح مشروع تهويد المدينة وتهميش الوجود الفلسطيني حتى يصبح أقليًا”.
مشاريع “التطبيع العقاري” وأثرها
في السنوات الأخيرة، ظهرت كيانات عربية ساهمت – بشكل مباشر أو غير مباشر – في تعزيز مشاريع التهويد، سواء عبر شراء عقارات لصالح أطراف مشبوهة، أو عبر شركات واجهة تابعة لدول مطبّعة.
وقد أدى هذا إلى زعزعة الثقة حتى داخل المجتمع المقدسي، وزاد من تعقيد مهمة حماية العقار العربي. إلا أن هذا الواقع دفع الأهالي إلى اليقظة القصوى، وتشكيل لجان حماية الحي، وتوثيق كل تحركات غريبة أو مشتبه بها.
كما ساهمت هذه الظاهرة في رفع مستوى الوعي الشعبي، وإعادة تذكير الأجيال الشابة بأن المعركة على القدس ليست فقط بالسلاح أو السياسة، بل أيضًا بعقود البيع والإيجار، وأن التوقيع على ورقة بيع واحدة قد يعادل التنازل عن جزء من الهوية.
القدس تُكتب من جديد
رغم كل شيء، ما زال صوت القدس صامدًا. لا يزال المقدسيّ يرفض بيع بيته، ويتمسّك بمفتاح منزله، ويدفع من لقمة أولاده كي لا تُمسّ ذاكرة الجدران.
في كل رفض لعقد بيع، هناك انتصار صغير. وفي كل متجر يُفتح في باب العامود أو عقبة الخالدية أو حي سلوان، هناك شهيد جديد من أجل الحق، لا يرويه الدم هذه المرة، بل ترويه كرامة لم تُشترَ ولم تُبع.