في ظل تصاعد التوترات في عدة بؤر إقليمية، أجرت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية جولة مشاورات دبلوماسية رفيعة المستوى، جاءت في توقيت حساس تزامن مع مستجدات الحرب في أوكرانيا وتدهور الأوضاع الإنسانية في غزة، بالإضافة إلى تطورات الملف السوري المجمَّد.
ولم تكن هذه المحادثات تقليدية، بل تحمل دلالات استراتيجية حول مستقبل العلاقة بين البلدين وتوازنات المنطقة.
مكالمة هاتفية.. بمضامين إقليمية ودولية
أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، يوم الثلاثاء، أن الوزير ماركو روبيو بحث في مكالمة هاتفية مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، سُبل دعم استقرار سوريا، ومجريات الوضع في قطاع غزة، إلى جانب استعراض التطورات في الملف الروسي-الأوكراني.
المحادثة لم تقتصر على ملفات منفصلة، بل عكست رؤية شمولية لكيفية التعامل مع تعقيدات الجغرافيا السياسية الراهنة، لا سيما في ظل تراجع الحضور الأميركي المباشر في بعض مناطق الشرق الأوسط.
سوريا على الطاولة: هل تعود للواجهة؟
أفادت الخارجية الأميركية أن الوزيرين ناقشا طبيعة العلاقة الأميركية السورية، والتي ما تزال مقطوعة رسمياً منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011. لكن هذه الإشارة تعني أن ثمة تفكيراً جديداً في واشنطن تجاه إدارة الملف السوري، سواء من بوابة التطبيع العربي أو من مدخل محاربة النفوذ الإيراني والروسي في سوريا.
وفي هذا السياق، أشار مراقبون إلى أن السعودية تلعب دور الوسيط “غير المباشر” بين واشنطن ودمشق، مستفيدة من انفتاحها المحدود على النظام السوري في الآونة الأخيرة، ضمن أطر عربية منضبطة.
غزة: تخفيف التصعيد أم إعادة الإعمار؟
الملف الفلسطيني كان حاضراً بقوة، خصوصاً ما يتعلق بالأوضاع المتدهورة في قطاع غزة. فبعد شهور من العدوان الإسرائيلي، باتت جهود إعادة الإعمار، وتأمين المساعدات الإنسانية، وتخفيف الحصار، تمثل أولويات لدى الرياض وواشنطن على حد سواء.
وفي هذا الإطار، تُعد السعودية من الداعمين الرئيسيين للمبادرات الإنسانية والسياسية التي تسعى إلى تثبيت التهدئة، فيما تعمل واشنطن على الضغط لفتح المسارات الدبلوماسية مع الأطراف المعنية، خصوصاً مصر وقطر.
أوكرانيا وروسيا: توافق أم تباين؟
ناقش الوزيران أيضاً مستجدات الحرب في أوكرانيا، في وقت بدأت فيه بعض القوى الإقليمية، ومنها السعودية، بلعب أدوار “جسرية” بين موسكو والعواصم الغربية. فالمملكة استضافت سابقاً قمماً ولقاءات حول الأزمة الأوكرانية، وشاركت بفعالية في جهود تبادل الأسرى.
ويتزامن هذا مع تحرك سعودي لتحسين صورتها كفاعل دولي متوازن، قادر على التحاور مع كافة الأطراف، بما فيهم روسيا التي ترتبط معها الرياض بعلاقات طاقة وتحالفات في أوبك+.
الشراكة الاستراتيجية: ثابتة رغم التحولات
بيان وكالة الأنباء السعودية “واس” أكد أن الاتصال تطرق أيضاً إلى العلاقات الثنائية بين البلدين، وسبل تطوير الشراكة الاستراتيجية، بما يشمل التعاون في ملفات الدفاع، والطاقة، والاستثمار.
يقول الدكتور عبد الله العتيبي، الباحث في العلاقات الدولية، إن “هذا النوع من المشاورات الدورية يعكس إدراك الطرفين لحجم التغيرات في النظام الدولي، وسعيهما المشترك للحفاظ على توازن المصالح رغم كل التباينات السياسية”.
يرى محللون أن مجرد طرح “طبيعة العلاقة” بين أميركا وسوريا خلال هذا الاتصال، يشير إلى وجود مداولات غير معلنة حول إمكانية تعديل المقاربة الأميركية، لا بالضرورة عبر التطبيع، بل بخلق مسارات ضغط جديدة بالتعاون مع حلفاء واشنطن في المنطقة.
يقول الخبير الأميركي مايكل روبن، من معهد “أميركان إنتربرايز”: “الإدارة الأميركية تدرك أن استمرار المقاطعة الكاملة لسوريا يعطي روسيا وإيران تفوقاً ميدانياً. أي فتح محدود لقنوات الاتصال قد يغير قواعد اللعبة”.
دبلوماسية الفرص وسط الأزمات
الرسالة التي حملها هذا الاتصال تتجاوز مجرد التنسيق الثنائي، بل تشير إلى رغبة سعودية وأميركية في توظيف أدوات الدبلوماسية وسط فوضى إقليمية، في محاولة لإعادة ضبط إيقاع الأزمات نحو اتجاه أكثر استقراراً، أو على الأقل أقل فوضوية.
وبينما تستمر واشنطن في مراجعة دورها في الشرق الأوسط، تبرز الرياض كحليف يملك أدوات التهدئة والضغط معاً، ويعرف جيداً كيف يناور في المساحات الرمادية.