وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرخة حادة إلى رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، سيرغي ناريشكين، قائلاً: “تحدث بوضوح!”، خلال اجتماع علني نُقل على الهواء مباشرة عشية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عام 2022. بدا ناريشكين متردداً، وتلعثم قبل أن يدلي بدعمه للاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا، ثم أمره بوتين بالجلوس، في مشهد فسّره كثيرون بأنه يعكس غياب الثقة والارتباك داخل المؤسسة الأمنية الروسية.
وبينما قد يبدو المشهد محرجاً في لحظته، إلا أنه أشار إلى خلل أعمق: بيئة استخباراتية مشبعة بالخضوع، لا تترك مجالاً لطرح أسئلة أو تقديم تقديرات مخالفة لقناعات رأس السلطة.
بيئة مغلقة.. ومعلومات غير دقيقة
وفقاً لمراقبين، فإن قرار بوتين باجتياح أوكرانيا انطلق من فرضية استخباراتية خاطئة، مفادها أن كييف ستسقط بسرعة، وأن النظام الأوكراني هش بما يكفي ليتم تحييده خلال أيام. لكن التطورات الميدانية أثبتت عكس ذلك، وأجبرت الكرملين على مراجعة تكتيكاته أكثر من مرة.
السبب، كما يقول محللون غربيون، لا يتعلق فقط بضعف المعلومات، بل بطبيعة النظام الذي يُقصي الأصوات المخالفة ويُكافئ الولاء على حساب الكفاءة، ما يجعل المؤسسات الاستخباراتية تردد صدى القناعات السياسية بدلاً من اختبارها.
نموذج مقلق في الديمقراطيات
وإن بدت هذه الصورة مألوفة في الأنظمة السلطوية، إلا أن بعض المراقبين يشيرون إلى أن عدوى “تسييس الاستخبارات” لا تقتصر على موسكو وحدها. ففي عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، تعرّضت المؤسسات الاستخباراتية الأميركية إلى ضغط غير مسبوق، سواء من حيث التشكيك في تقاريرها أو من خلال تعيين مسؤولين يشاركون الرئيس قناعاته الأيديولوجية.
ففي إحدى أبرز المحطات، تجاهل ترمب تقريرًا من مديرة الاستخبارات الوطنية يفيد بعدم اقتراب إيران من إنتاج سلاح نووي، وأصر على المضي في توجيه ضربة جوية استهدفت مواقع نووية مزعومة. لاحقًا، أصر بعض المسؤولين في إدارته على صحة الرواية الرسمية، رغم تحفظات وكالات أمنية عدة بشأن حجم الأضرار.
ويحذر مراقبون من أن هذا النمط يعكس انزلاقًا نحو نموذج تكرّس فيه الأجهزة الاستخباراتية لتبرير القرارات السياسية بدلًا من إرشادها. وفي حالات معينة، أدى تسييس العمل الاستخباراتي إلى تغييب المعلومات الدقيقة، ما قد يُفضي إلى قرارات كارثية، سواء في مجال الأمن أو السياسة الخارجية.
إخفاق متوقع.. أم نتيجة حتمية؟
في جوهرها، تبقى الاستخبارات علماً معقداً، يرتكز على مصادر بشرية وتقنية وتحليلات قابلة للخطأ. غير أن طبيعة النظام السياسي تحدد مدى نجاح تلك الأجهزة في أداء مهامها. فالأنظمة التي تضيق ذرعاً بالخلاف، أو تصنف التحليل المخالف كتهديد، تهيئ بيئة محفوفة بالإخفاقات.
وتماماً كما يُعدّ الولاء المطلق شرطاً للاستمرار في أجهزة الدولة، تغيب المساحات الآمنة التي تتيح للمحللين قول “الحقيقة غير المريحة”، ما يؤدي إلى صناعة قرارات تنطلق من فرضيات غير دقيقة، كما في حالة موسكو مع أوكرانيا.
درس من ناريشكين
المشهد الذي ظهر فيه ناريشكين مرتبكاً ومتردداً لا يُعد حالة فردية، بل يعكس منظومة أوسع يُفضل فيها الصمت على الصراحة، والامتثال على النقد. وهي منظومة قد تتكرر في أماكن أخرى، إذا ما تم تغييب دور الخبراء الحقيقيين لصالح الولاءات.
في المقابل، تحذر أوساط أمنية غربية من أن تكرار سيناريوهات تسييس الاستخبارات، سواء في الأنظمة الشمولية أو حتى الديمقراطيات الليبرالية، يُعد تهديداً جوهرياً للأمن القومي، خاصة في عالم يتسم باضطراب متسارع وتغير موازين القوى بشكل دائم.