تشهد منطقة مضيق تايوان منذ مطلع عام 2024 تصعيداً مقلقاً في التوترات السياسية والعسكرية، على خلفية انتخاب ويليام لاي رئيساً لتايوان، وهو الذي تعتبره بكين تهديداً مباشراً لوحدة الأراضي الصينية، واصفة إياه بـ”الانفصالي” و”المحرض على الحرب”. فما إن أعلن فوزه، حتى شرعت الصين في حملة شرسة من التصعيد الإعلامي والعسكري، بدأت باتهامات سياسية حادة، وتطورت إلى مناورات عسكرية تحاكي سيناريوهات غزو للجزيرة.
وفي مارس الماضي، بلغ الخطاب الصيني ذروته عندما وصفته السلطات بـ”مدمر للسلام” ونشرت وسائل إعلام حكومية صوراً كاريكاتيرية تجرده من صفته الإنسانية، مجسدة إياه على شكل “طفيلي” يُلتقط من جزيرة مشتعلة. هذا النوع من التشهير السياسي – الذي يتجاوز مجرد الدعاية – يعكس عمق القلق الصيني من سياسة لاي، التي لا تُخفي نزعته الاستقلالية وميله الواضح لتقوية موقف تايوان في وجه الضغوط الصينية.
لاي: نهج تصادمي يقطع مع سلفه
على عكس رئيسة تايوان السابقة، تساي إنغ ون، التي حاولت الموازنة بين الشراكة مع الغرب وتفادي التصعيد مع بكين، ينتهج لاي استراتيجية أكثر تحدياً. في مارس الماضي، لم يتردد في وصف الصين بأنها “قوة أجنبية معادية”، معلناً عن خطة طموحة مؤلفة من 17 بنداً لتعزيز قدرات الجزيرة الدفاعية، تشمل ردع التسلل، ومواجهة الحرب السيبرانية والدعائية، وتوسيع التعاون العسكري مع القوى الديمقراطية الغربية.
هذه السياسة لم تمر مرور الكرام في بكين، التي ترى في مثل هذه الإجراءات استعداداً ضمنياً للانفصال الفعلي، وتحريضاً للشارع التايواني على القطيعة مع “الهوية الصينية”. وقد أعادت الصين استحضار تجربتها مع رئيس تايوان الأسبق تشين شوي بيان، الذي وُصِف آنذاك بـ”المتهور والمسبب للفوضى”، وانتهت تجربته إلى حافة صراع مسلح عام 2008.
واشنطن أمام اختبار جديد
التحركات الصينية المتسارعة اليوم لا تعبّر عن مجرد امتعاض دبلوماسي، بل تترجمها بكين بجدية متزايدة في استعداداتها العسكرية. واللافت أن هذه الموجة التصعيدية تتزامن مع غموض في الموقف الأميركي، خصوصاً في ظل الانقسامات داخل إدارة دونالد ترمب السابقة (والتي يُستعاد خطابها في أروقة الحزب الجمهوري حالياً) بشأن طبيعة الالتزام الأميركي بتايوان.
أي مؤشرات على تردد أو غموض في واشنطن قد تدفع القيادة الصينية للاعتقاد بأن اللحظة مواتية لفرض أمر واقع عسكري قبل انتخابات تايوان المقبلة أو قبل اكتمال تحديث قدرات الجيش الصيني المتوقع بحلول 2027. وتشير تقديرات متزايدة إلى أن بكين قد تكون مستعدة لارتكاب مغامرة محسوبة، إذا اعتقدت أن الكلفة السياسية ستكون أقل من المكاسب الاستراتيجية.
عسكرة الحياة السياسية في تايوان
الرد التايواني على هذا التهديد الصيني جاء على شكل إعادة تشكيل لمفاصل الدولة تحت طابع أمني متشدد: من تفعيل المحاكم العسكرية لقضايا التجسس، إلى تعديل المناهج الدراسية بما يضعف الارتباط الثقافي مع الصين، مروراً بإجراءات تقيد التعاون الأكاديمي، وتحفز رجال الأعمال على نقل استثماراتهم إلى حلفاء ديمقراطيين.
هذه السياسات لم تكتفِ بردع التغلغل الصيني، بل باتت تستهدف أيضاً النفوذ الثقافي والاجتماعي للصين داخل الجزيرة، ما أثار غضب بكين التي ترى في ذلك تجريفاً ممنهجاً لفكرة “الصين الواحدة”. ولم تتأخر بكين في الرد، متهمة لاي بمحاولة “عسكرة المجتمع” وعرقلة التواصل الطبيعي بين الضفتين.
تصعيد متبادل… وتحولات في الحسابات
تزداد خطورة الموقف في ضوء معادلة معقدة: فبينما يرى البعض في الداخل الصيني أن لاي ضعيف شعبياً مقارنة بسلفه، يخشى آخرون أن يدفعه هذا الضعف إلى مزيد من التصعيد لاستقطاب الشارع، كما فعل تشين في السابق. هذا التقدير يجعل سيناريو المواجهة العسكرية أكثر واقعية، خاصة أن الأصوات المتشددة في الصين باتت تجاهر بالدعوة إلى استخدام القوة، أو حتى فرض حصار بحري تدريجي، في محاكاة لسيناريو “شيان” 1936 الذي شكل نقطة تحوّل دراماتيكية في تاريخ الصين الحديث.
تحليل: هل اقتربت المواجهة الكبرى؟
تشير كل المؤشرات إلى دخول العلاقات الصينية – التايوانية مرحلة شديدة الهشاشة، حيث تنعدم الثقة وتتشظى قنوات التواصل، بينما تزداد وتيرة التصعيد العسكري والدعاية السياسية. وإذا بقيت واشنطن في موقع المتفرج أو العاجز عن تقديم ردع واضح، فإن الصين قد تجد نفسها أكثر استعداداً للمخاطرة، ولو على حساب الاستقرار الإقليمي.
تايوان اليوم ليست مجرد جزيرة مستقلة بحكم الأمر الواقع، بل صارت رمزاً لمواجهة جيوسياسية كبرى بين نموذجين سياسيين متناقضين. وكل تصعيد جديد يقرب المنطقة من احتمال اشتعال نزاع مباشر، قد تكون نقطة انفجاره أقل دراماتيكية مما نتصور، لكن تبعاته ستكون بلا شك زلزالاً في النظام العالمي.