في مشهد حمل طابع الاحتفال الدبلوماسي أكثر من كونه إعلانًا عن حل جذري، شهدت العاصمة البريطانية لندن، أمس، قمة ثنائية جمعت رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، توجت بإعلان اتفاق جديد حول الحد من تدفق قوارب المهاجرين عبر بحر المانش. الاتفاق الذي وُصف في الإعلام البريطاني المحافظ بـ”الهدية الفرنسية” جاء في لحظة حرجة سياسياً لحكومة حزب العمال، التي تسعى منذ وصولها إلى الحكم قبل عام لإيجاد مخرج من هذا الملف الشائك الذي أرهق الإدارات البريطانية المتعاقبة منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ظهر ستارمر خلال المؤتمر الصحافي المشترك مبتسمًا وواثقًا، فيما اعتبره أنصاره إنجازًا دبلوماسيًا يضاف إلى رصيده. لكن المشهد لم يخلُ من نبرة التوتر، خاصة عندما انتقل الحديث إلى الداخل البريطاني وتحديدًا إلى الضغوط التي يواجهها ستارمر من تيار اليمين المتشدد، ما دفعه إلى مهاجمة نايجل فاراج، زعيم حزب “ريفورم”، الذي صادف أنه كان في عرض المانش آنذاك، يوثّق بالفيديو ما وصفه بـ”عجز العمال عن حماية الحدود”.
الرمزية التي حملتها المصافحة الحارة بين ستارمر وماكرون أمام عدسات الكاميرات لم تُخفِ الأسئلة التي بدأت تتوالى بشأن مدى قابلية الاتفاق للتطبيق الفوري، ومدى نجاعته في كبح الظاهرة التي باتت تمثل أزمة هوية سياسية واجتماعية في بريطانيا ما بعد البريكست. فالاتفاق، كما تم تسويقه، يقوم على مبدأ “تبادل المهاجرين” وفق شروط إنسانية وأمنية محددة، حيث تقبل بريطانيا من تنطبق عليه صفة اللجوء وفقًا لمعايير معينة، مقابل أن تعيد فرنسا من لا تنطبق عليه الشروط إلى أراضٍ بعيدة عن السواحل الإنجليزية.
غير أن هذا الإطار المبني على التوازن بين القبول والرفض يصطدم منذ اللحظة الأولى بعقبات قانونية ودبلوماسية حقيقية. فتنفيذ الاتفاق يتطلب، بحسب مسؤولين بريطانيين، موافقة المفوضية الأوروبية وعدد من الدول الأعضاء في الاتحاد، وقد أبدى بعضها تحفظات مبكرة على فكرة استقبال مهاجرين رُحّلوا من بريطانيا دون موافقتها. وتشير وزارة الداخلية البريطانية إلى أن الاتفاق، على الرغم من كونه ثنائيًا، إلا أنه يتقاطع مع مواثيق حقوق الإنسان واللاجئين الدولية، ما قد يفتح الباب أمام سلسلة من الطعون القضائية، داخل بريطانيا وخارجها، كتلك التي أسقطت خطة حكومة المحافظين السابقة لترحيل المهاجرين إلى رواندا بقرار من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 2022.
على الرغم من ذلك، تؤكد وزارة الداخلية في لندن ثقتها بأن الاتفاق هذه المرة مؤسس على قواعد قانونية أكثر متانة، خصوصًا أن فرنسا – الطرف الآخر في الاتفاق – هي عضو في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وتُعدّ من الوجهات الآمنة للمهاجرين بمقاييس القانون الدولي، مما يمنح الاتفاق هامشاً أكبر للمناورة القضائية، ويقلل احتمالات الطعن فيه بنجاح.
الاتفاق الذي يطمح الطرفان لتفعيله خلال أسابيع، ينص على إنشاء بوابة إلكترونية بريطانية داخل الأراضي الفرنسية، تُمكّن المهاجرين من تقديم طلبات اللجوء قبل عبورهم إلى المملكة المتحدة. وتتوزع آلية الفرز وفق ثلاثة معايير رئيسية: وجود روابط عائلية داخل بريطانيا، الانتماء إلى جنسيات تُرجّح السلطات البريطانية أهليتها لنيل اللجوء، والمخاطر العالية التي قد يتعرض لها المهاجر في حال بقائه في محيط مهربي البشر. ووفقاً لهذا التصنيف، من المرجح أن يكون المستفيدون الأساسيون من الاتفاق من جنسيات مثل إريتريا، إيران، أفغانستان، والسودان، وهي الجنسيات التي تمثل الحصة الكبرى من مهاجري القوارب في السنوات الأخيرة.
وبحسب الأرقام الرسمية، سجلت بريطانيا وصول ما يقارب 20 ألف مهاجر عبر القوارب خلال النصف الأول من عام 2025، ما يمثل زيادة بنسبة 50 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. ورغم عدم تحديد سقف رقمي رسمي لعدد من سيشملهم الاتفاق في المرحلة التجريبية، فإن بعض التقديرات تشير إلى تنفيذ نحو 50 عملية تبادل أسبوعيًا، ما يعني أن واحدًا فقط من كل 17 مهاجرًا سيخضع للآلية الجديدة، على الأقل في مرحلتها الأولى. لكن “الداخلية” البريطانية ترى في ذلك بداية قابلة للتوسع السريع بمجرد تبسيط الإجراءات وتسريع دورة المعالجة القانونية.
الاتفاق بين لندن وباريس لا يمثل فقط مقاربة جديدة لاحتواء أزمة الهجرة، بل اختبارًا سياسيًا حقيقيًا لحكومة كير ستارمر، التي تواجه أول تحدٍّ جدي في توازنها بين الواقعية السياسية وضغوط الشعبوية اليمينية. كما يعكس الاتفاق محاولة ماكرون لإعادة فرنسا إلى مركز الثقل الأوروبي في إدارة الهجرة، في وقت تتزايد فيه الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي حول هذا الملف. المصافحة التي جمعت الزعيمين أمس قد تكون بداية لمرحلة جديدة في التعاون، لكن طريق التنفيذ لا يزال حافلاً بالألغام.