الوضع الإنساني في قطاع غزة دخل مرحلة قاتمة تهدد ليس فقط حياة الأفراد في اللحظة الراهنة، بل مستقبل جيل بأكمله. تحذير الأمم المتحدة من أن 14 ألف رضيع مهددون بالموت خلال 48 ساعة بسبب الجوع لا يمكن النظر إليه كرقم عابر في نشرات الأخبار. إنه جرس إنذار مدوٍ عن انهيار شامل للبيئة الإنسانية، وعن استخدام الحصار كأداة قتل جماعي صامتة، تستهدف أكثر فئات المجتمع ضعفاً: الأطفال.
سياسة كسر الإرادة
في هذا السياق، لا يعود الجوع مجرد نقص في الغذاء، بل يتحول إلى سلاح، إلى سياسة ممنهجة تهدف إلى كسر الإرادة، وإبادة جماعية بطيئة تسير تحت غطاء “الإجراءات الأمنية”. عندما تعجز الأمهات عن إرضاع أطفالهن، بسبب نقص التغذية، فهذه ليست مجرد أزمة مؤقتة، بل كارثة تمتد إلى بنية الجيل القادم: أدمغة غير مكتملة، أجساد هزيلة، ونفوس نشأت على الألم والفقد.
المجتمع الدولي بدأ يستشعر خطورة الكارثة، لكن التحرك لا يزال دون المطلوب بكثير. دخول خمس شاحنات فقط لا يُعَد إنجازاً، بل صفعة في وجه العدالة الإنسانية، خصوصًا مع معرفة أن غزة تحتاج مئات الشاحنات يوميًا لتلبية الحد الأدنى من احتياجات سكانها. الأمم المتحدة تطالب بـ”إغراق غزة بالمساعدات”، لأن حجم الجوع تخطى مراحل التحذير، وبات يُقاس بالدقائق التي تفصل بين الحياة والموت، لا بالأيام أو الأسابيع.
تحرك عالمي
الأخطر من ذلك هو أن هذه الأزمة لا تخلق فقط حالة طارئة، بل تؤسس لجيل يعاني من آثار طويلة المدى. الأطفال الذين ينجون من الموت جوعًا سيكبرون وهم يحملون تبعات سوء التغذية المزمن: تأخر في النمو العقلي والجسدي، أمراض مناعية، مشكلات نفسية، وشعور دفين بالخذلان من عالم رأى ولم يتدخل. إنها عملية قتل للغد قبل أن تكون مجزرة لليوم.
ما يحدث اليوم هو اختبار لضمير العالم. الدول التي بدأت بتغيير نبرتها، مثل بريطانيا وفرنسا وكندا، بدأت تدرك أن الصمت أصبح تواطؤًا، وأن استخدام المساعدات كأداة سياسية أمر مرفوض أخلاقيًا. لكن دون خطوات ملموسة وسريعة، ستبقى هذه التحذيرات صرخات في الفراغ، وستُضاف غزة إلى قائمة المآسي التي شهدها التاريخ وفشل في منعها.
وصمة عار
إذا لم تُرفع القيود فوراً، وإذا لم تُفتح المعابر أمام تدفق غير مشروط للمساعدات، فإن الأرقام ستحوّل الكارثة من قضية سياسية إلى وصمة أبدية على جبين الإنسانية. موت رضيع بسبب الجوع ليس فشلاً في التوزيع، بل قرار سياسي متعمد. وحين يصبح الرضيع هدفًا، فإن الحرب تكون قد فقدت آخر ذرة من شرعيتها.