مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في العراق، بدأت التحالفات السياسية التي لطالما مثّلت العمود الفقري للعملية الانتخابية تتفكك تدريجيًا، في مشهد يعكس تراجع الثقة بين أطراف المعادلة السياسية، ويكشف في الوقت ذاته عن رغبة كل طرف في اختبار ثقله الشعبي بشكل منفرد، أملاً في تحسين موقعه التفاوضي لما بعد الانتخابات. في هذا السياق، تبرز خطوة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتشكيل ائتلاف انتخابي جديد كاستثناء من سلوك عام يتسم بالتردد والانتظار.
الإطار التنسيقي: تفكيك مرحلي لتحالف شيعي مترهل
في أواخر أبريل، اتخذ “الإطار التنسيقي”، الذي يضم معظم القوى السياسية الشيعية باستثناء التيار الصدري، قرارًا استراتيجيًا بخوض الانتخابات بقوائم متعددة، مع التوافق على إعادة الالتحام بعد إعلان النتائج. هذا التوجه، الذي أُقرّ في منزل هادي العامري، زعيم منظمة بدر، لم يُترجم إلى خطوات ملموسة بعد مرور أكثر من شهر، باستثناء إعلان السوداني عن تحالف جديد، ما يعكس على الأرجح تبايناً داخل مكونات الإطار بشأن الحسابات الانتخابية والرهانات الفردية.
السوداني يسبق الجميع: “الإعمار والتنمية” كائتلاف انتخابي بتوقيع حكومي
اختار رئيس الوزراء محمد شياع السوداني المضي في طريق مستقل من خلال الإعلان عن تشكيل “ائتلاف الإعمار والتنمية”، مستنداً إلى رصيده في الملفات الخدمية، وقاعدة سياسية تضم أسماء بارزة من السلطتين التنفيذية والتشريعية. ويضم هذا التحالف كلًا من “تيار الفراتين” بزعامة السوداني، و”تجمّع بلاد سومر” برئاسة وزير العمل أحمد الأسدي، و”تحالف العقد الوطني” بقيادة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، و”ائتلاف الوطنية” بزعامة إياد علاوي، إضافة إلى “تجمع أجيال” و”تجمع إبداع كربلاء” و”تجمع حلول الوطني”.
وقد صادقت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات على هذا التحالف، مؤكدة قانونيته وفق المادة 17 من قانون الأحزاب السياسية، في خطوة تمنح “الإعمار والتنمية” زخماً مؤسساتياً قبل انطلاق الحملات الانتخابية.
سردية “الخدمة” والتماهي مع الإصلاح
يراهن السوداني على إنجازاته في مجال الخدمات والبنى التحتية لتسويق مشروعه السياسي، وهو ما عبّر عنه بيان التحالف الذي شدد على استمرار النهج الإصلاحي والتركيز على التنمية المستدامة وتعزيز الاقتصاد الوطني. ومن جهة أخرى، وصف ائتلاف “الوطنية” التحالف الجديد بأنه نواة لتأسيس “دولة مدنية حديثة” تضمن العدالة والمساواة، وتعمل على إنهاء المحاصصة الطائفية والجهوية.
أما النائب محمد الصيهود، أمين عام “تجمع أجيال”، فذهب إلى اعتبار التحالف رؤية استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تنفيذ مشاريع بنيوية كبرى، من ضمنها طريق التنمية والموانئ والمطارات، بما يعكس الطموح لتحويل الائتلاف من كتلة انتخابية إلى مشروع سياسي مستدام.
القوى السنية: “تقدّم” أول المنفصلين
على الجبهة السنية، لا تزال الخريطة ضبابية إلى حد كبير، رغم إعلان رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، زعيم حزب “تقدّم”، عن خوض الانتخابات المقبلة بقائمة منفردة، دون أي تحالفات سياسية. ويعد هذا القرار أول خطوة عملية على الساحة السنية، وسط غياب الوضوح من قبل تحالفات “السيادة” و”العزم”، اللذين يرتبطان بعلاقات متذبذبة مع الإطار التنسيقي.
الكرد: غياب التوافق وتأجيل التحالف
أما في إقليم كردستان، فلم تسفر المفاوضات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني عن اتفاق لإحياء “التحالف الكردستاني” القديم. ويرتبط هذا الجمود بعدة ملفات عالقة، أبرزها تشكيل حكومة الإقليم واختيار رئيس الجمهورية المقبل، وهو المنصب الذي غالبًا ما يتحول إلى نقطة خلاف دائمة بين الحزبين.
ظاهرة الانشقاقات: احتضار للنظام الحزبي التقليدي؟
من جانب آخر، بدأت تظهر ملامح تصدّع داخل الأحزاب السياسية العراقية، بفعل الانشقاقات المتكررة التي باتت تعكس أزمة ثقة داخلية وسخطاً شعبياً واسعاً. الوزير السابق باقر الزبيدي، زعيم تحالف “مستقبل العراق”، حذّر من أن هذه الانشقاقات ليست سوى نتيجة طبيعية لنهج المحاصصة والفساد وشراء الذمم، مشددًا على أن الشارع العراقي بات أكثر وعيًا وإدراكًا للوجوه التي ارتبطت بملفات فساد كبرى، مثل “سرقة القرن” وقضية “خور عبد الله”.
المقاطعة السياسية: خطر على “الإصلاح الديمقراطي”
في خضم هذا المشهد المتشابك، دعا خطيب جمعة النجف، صدر الدين القبانجي، العراقيين إلى عدم مقاطعة الانتخابات، مؤكدًا أن “الانكفاء” لن يسهم في الإصلاح، بل يمنح الأفضلية لقوى أخرى قد لا تعبّر عن تطلعات الشعب. وأشار إلى أن الاقتراع هو السبيل الوحيد المتاح حاليًا لتحقيق التغيير السلمي.
قراءة في المشهد: انتخابات انتقالية أم إعادة تدوير؟
يبدو أن الانتخابات المقبلة ستكون محطة انتقالية تختبر فيها القوى السياسية حجمها الحقيقي، في ظل تراجع الثقة العامة وضعف الهياكل الحزبية التقليدية. ومع أن بعض القوى تراهن على سرديات خدمية أو إصلاحية، إلا أن الشارع العراقي لا يزال متوجساً من إعادة إنتاج منظومة الفساد نفسها، حتى وإن جاءت بثوب جديد. وفي ظل غياب التيار الصدري عن السباق، وانقسام التحالفات الطائفية والقومية، فإن المشهد مفتوح على احتمالات عدة، أبرزها: ولادة خارطة سياسية جديدة تشكّلها الحسابات الفردية والانتخابية أكثر مما ترسمها البرامج والرؤى.