تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما نقلتها صحيفة «هآرتس»، تمثل تحوّلاً خطيراً في الخطاب السياسي والعسكري الإسرائيلي تجاه قطاع غزة، حيث لم تعد المجازر والدمار مبرَّرة تحت غطاء “محاربة الإرهاب”، بل كُشف عنها كجزء من مخطط متعمّد لتهجير سكان غزة وتغيير الواقع الديموغرافي فيها، وهو ما يضع إسرائيل أمام اتهامات واضحة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بل وربما “إبادة جماعية” بحسب المعايير القانونية الدولية.
غطاء الرد على حماس
هذا النوع من التصريحات، عندما يصدر عن رأس هرم السلطة السياسية، لا يمكن اعتباره مجرّد “انفلات لغوي” أو “لحظة غضب”. بل هو إفصاح صريح عن نوايا كانت تُدار منذ أشهر في الخفاء، تحت غطاء “الأمن القومي” و”الرد على حماس”، ولكنها الآن تُكشَف أمام المجتمع الدولي بصيغة فجة توحي بأن ما يحدث في غزة ليس سوى جزء من خطة أكبر تستهدف اقتلاع السكان من أرضهم. وفي حال ثبتت هذه التصريحات فعلاً، فإنها تُسقط كل الذرائع الأخلاقية والسياسية التي بنت عليها إسرائيل حملتها العسكرية على القطاع.
من جهة أخرى، فإن اللحظة التي انفجر فيها نتنياهو غاضباً أمام ضباط جيش الاحتياط تكشف عن عمق الأزمة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وعدم رضا قطاعات من الجيش عن إدارة الحرب. فالضباط الذين انتقدوا غياب الأهداف الاستراتيجية والتهديد المباشر لحياة المخطوفين، لم يوجّهوا انتقاداً أمنياً فقط، بل عبّروا عن أزمة ثقة حقيقية مع القيادة السياسية. وهذا ما دفع نتنياهو لمحاولة قلب الطاولة عبر التصعيد الكلامي، في محاولة منه لاستعادة زمام المبادرة أمام عيون متشككة ترى أن الحرب تُدار لخدمة مصالحه الحزبية الضيقة، وليس أمن إسرائيل.
تهجير سكان غزة
نتنياهو في هذه الحالة لم يكن فقط يعترف بنيته تهجير سكان غزة، بل كان يحاول “امتصاص غضب” العسكريين عبر كشف أن الدمار المتعمّد هو جزء من خطة أكبر، وكأن لسان حاله يقول: “ما تفعلونه ليس عبثياً، بل له هدف”. إنه يحاول ترميم الجبهة الداخلية المهترئة، التي بدأت تعي أن الحرب طويلة بلا أفق، وتؤدي إلى تفاقم العزلة الدولية، وتآكل الردع العسكري، وتزايد الضغوط الأميركية والأوروبية، ناهيك عن تهديد الاقتصاد الإسرائيلي.
أما بالنسبة لمخطط تهجير سكان غزة، فالواضح أنه ما زال قائماً، لكنه يواجه صعوبات شديدة. من الناحية العملية، لم تنجح إسرائيل بعد في خلق ظروف التهجير الجماعي رغم شراسة القصف والتجويع والمنع المنهجي لدخول المساعدات. المحاولات المتكررة لدفع الفلسطينيين جنوباً باتجاه معبر رفح، وتلويحها بتوسيع “المناطق الآمنة” على أطراف القطاع، كلها خطوات تهدف إلى تهيئة سيناريو يُشبه النكبة، ولكن في سياق دولي مختلف.
قنبلة سياسية
المقاومة الشعبية الفلسطينية، والصمود المدني، والمواقف الدولية التي بدأت تأخذ منحى أكثر جرأة في انتقاد إسرائيل، كلها عناصر تقف في وجه تحقيق هذا المخطط، رغم استمرار محاولات فرض الأمر الواقع بالقوة. وقد تكون تصريحات نتنياهو محاولة لكسر هذا الحاجز، من خلال إطلاق “قنبلة سياسية” هدفها جسّ نبض الداخل الإسرائيلي والخارج الدولي حول إمكانية رفع سقف العمليات.
ما يجعل الأمر أكثر خطورة أن هذه التصريحات لم تأتِ فقط من نتنياهو، بل تزامنت مع بروتوكولات مسرّبة من لجنة الأمن والخارجية في الكنيست، تكشف عن تبرير ممنهج لسياسة “التجويع” ومنع الدواء، ما يعني أن الأمر يتجاوز مجرد قرارات فردية، ويقترب من كونه سياسة دولة مدروسة. مثل هذه التسريبات تؤكّد أن مخطط التهجير لا يزال حيّاً في فكر دوائر الحكم الإسرائيلي، رغم فشله الميداني حتى الآن.
تصريحات نتنياهو ليست مجرد زلّة لسان، بل نذير بمرحلة أشد دموية قد تُقبل عليها إسرائيل، إن لم يتم تقييد اندفاعتها من قبل المجتمع الدولي، أو عبر الضغوط الداخلية المتزايدة التي بدأت تتفجّر من قلب المؤسسة العسكرية نفسها.