حركة حماس تواجه اليوم لحظة فارقة في تاريخها، لحظة تتقاطع فيها الأخطاء السياسية الكبرى مع كلفة بشرية وإنسانية باهظة دفعها الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، دون أن يُستشار أو يختار هذا المصير. فبعد ما يقارب عقدين من سيطرة الحركة على القطاع، يمكن القول إن المشروع السياسي الذي اختارته حماس، والقائم على الانفراد بالحكم والمواجهة المستمرة مع إسرائيل، قد أوصل غزة إلى واحدة من أسوأ الكوارث في تاريخها الحديث.
نزع سلاح حماس
القرار غير المدروس بالهجوم في السابع من أكتوبر 2023، مهما كانت دوافعه، فُسّر من قبل كثيرين، حتى داخل الأوساط الفلسطينية، على أنه خطوة منفصلة عن واقع الناس، لا تراعي حجم التهديد ولا توازن القوى ولا الكلفة التي ستدفعها غزة. لقد فتحت حماس، دون تنسيق وطني أو غطاء سياسي جامع، الباب أمام إسرائيل لتنفيذ مشروعها الطويل الأمد بتصفية القضية الفلسطينية، وفرض واقع جديد تحت عنوان “ما بعد غزة”.
إسرائيل استغلت الحدث بشكل ممنهج: قتلت ما يزيد عن 50 ألف فلسطيني، دمرت البنى التحتية، قطّعت أوصال القطاع، وأحالته إلى أنقاض، بينما وجّهت ضربات مركزة لقيادات وعناصر حماس، وبدأت تطرح رواية أنه لا يمكن أن يكون هناك مستقبل لغزة دون “نزع سلاح حماس”. هذا الطرح لم يعد مرفوضاً دولياً كما في السابق، بل بدأ يُناقش علناً في أروقة السياسة الغربية، مدعوماً بما تصفه بعض الدول بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
دعوى الحفاظ على المقاومة رغم الكارثة
في هذا السياق، يتحول تعنت حماس في المفاوضات، ورفضها فكرة تسليم السلاح، إلى عنصر يُستخدم ضدها وضد غزة ككل. فبينما تُطرح سيناريوهات لإعادة إعمار القطاع بشرط خروج الحركة من المشهد الأمني، تصرّ حماس على التمسك بسلاحها، بدعوى الحفاظ على “المقاومة”، رغم أن الناس باتوا يشككون في جدوى هذا السلاح في ظل الكارثة المتواصلة، واستمرار معاناتهم اليومية.
هذا التعنت لا يُقرأ فقط كإصرار على خط سياسي، بل بات يُنظر إليه كحالة من الانغلاق على الذات، ومحاولة للحفاظ على مكتسبات سلطة الأمر الواقع في غزة، حتى ولو على حساب المدنيين الذين يتعرضون للموت والجوع والتشريد. حركة حماس، التي كانت تحمل شعار “المقاومة أولاً”، تبدو الآن وكأنها رهينة لمعادلات بقائها التنظيمي، ولو كان الثمن باهظاً على الناس الذين تحكمهم.
الإخفاق لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يمتد إلى الإدارة والحكم. الأزمة الاقتصادية المتفجرة، غياب الرواتب، تراجع الخدمات، والفراغ الإداري، كلها نتائج واضحة لحكم أحادي، استبعد الشراكة الوطنية، وأغلق الباب أمام التعددية، وفشل في بناء مؤسسات قادرة على الصمود أو توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
غزة رهينة لحسابات ضيقة
أما في الضفة والخارج، فإن تداعيات قرارات حماس طالت المشروع الوطني بأسره، إذ يتم الآن استخدام ما جرى في غزة لتخويف الفلسطينيين في الضفة الغربية، وترسيخ الاحتلال، وتقويض أي إمكانية للحديث عن دولة فلسطينية. والمجتمع الدولي، الذي كان يتحدث عن حل الدولتين، بات اليوم يهمس عن “أمن إسرائيل” قبل أي شيء آخر.
حماس لم تكن وحدها السبب في تراجع القضية الفلسطينية، لكن خياراتها الأحادية، وتعاملها مع القطاع كمنطقة نفوذ خاصة، ورفضها أي مراجعة جدية بعد كل كارثة، جعلها أحد الأسباب الرئيسية في تعميق المأساة. واليوم، ومع كل هذا الخراب، لا تزال ترفض تقديم أي تنازلات حقيقية، لا في إطار المصالحة، ولا في ملف إعادة الإعمار، ما يُبقي غزة رهينة لحسابات ضيقة، تفتقر للبوصلة الوطنية الجامعة.
المطلوب اليوم من حركة حماس ليس الصمود وراء شعارات فارغة، بل شجاعة الاعتراف بالخطأ، وفتح الباب أمام مشروع وطني موحد يعيد للشعب الفلسطيني صوته ومكانته وحقوقه، ويكسر المعادلة التي تجعل غزة دائماً تدفع الثمن الأكبر، فيما النخب السياسية تكتفي بالخطابات والمواقف.