التصريحات الأخيرة لوزير التعليم الإسرائيلي يوآف كيش، وتهديده العلني بسحب التمويل عن جامعات إسرائيلية مثل الجامعة العبرية وجامعة تل أبيب بسبب فعاليات لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، تكشف عن مستوى متقدم من القمع المؤسسي داخل إسرائيل تجاه حرية التعبير، حتى داخل الفضاءات الأكاديمية التي يُفترض أن تكون آخر حصون الفكر الحر والنقاش المفتوح.
قمع الحريات
هذا الموقف ليس مجرد تعبير عن رفض سياسي لوجهة نظر مختلفة، بل هو تهديد مباشر باستخدام أدوات الدولة لمعاقبة المؤسسات الأكاديمية إذا سمحت بطرح رواية أخرى، حتى وإن كانت تستند إلى حقائق تاريخية مثبتة ومؤلمة لشعب بأكمله. فإحياء ذكرى النكبة، بالنسبة للفلسطينيين، ليس فعلاً سياسياً بقدر ما هو صرخة ذاكرة، محاولة للبقاء في الوعي والهوية. لكن في السياق الإسرائيلي الرسمي، يتحوّل هذا الفعل إلى “تحريض”، و”تهديد للدولة”، و”كراهية”—وهي توصيفات تعكس قلقاً عميقاً من مجرد سرد الرواية الفلسطينية.
تصريحات كيش ليست معزولة، بل تنبع من مناخ سياسي أوسع يتّسم بتصاعد القومية المتطرفة، وشيطنة كل من يعارض الرواية الرسمية أو يعبّر عن تعاطف مع الفلسطينيين. ما تشهده إسرائيل اليوم هو توتّر داخلي متزايد بين تيارين: الأول قومي يميني يرى في أي تعبير عن المأساة الفلسطينية مساساً بشرعية الدولة، والثاني أكثر انفتاحاً وتنوعاً، خصوصاً في الأوساط الجامعية، يسعى للدفاع عن الحريات والاعتراف بحقوق الآخرين، حتى ضمن إطار الدولة.
تدهور صورة إسرائيل دولياً
ردود الجامعات التي أكدت على قانونية الفعاليات، ورفضها تهديدات الوزير، تعكس هذا الصراع الداخلي. فهناك مؤسسات أكاديمية، رغم الضغوط، ما زالت تحاول الحفاظ على الحد الأدنى من مبادئ الديمقراطية وحرية الرأي. لكن هذه المحاولات تصطدم بجدار سلطوي يضيق الخناق يوماً بعد يوم، ليس فقط على الطلاب العرب، بل على كل من يخرج عن الخطاب الرسمي.
الشارع الإسرائيلي نفسه ليس بمنأى عن هذا التوتر. فهناك طبقة متزايدة من الإسرائيليين تشعر بالاختناق من هيمنة الخطاب القومي المتشدد، خاصة مع تدهور صورة إسرائيل دولياً بعد المجازر المتواصلة في غزة. تتصاعد الانتقادات داخل المجتمع المدني، وتُطرح تساؤلات حول مستقبل الحريات العامة في بلدٍ يدّعي الديمقراطية، بينما يُقصي الروايات الأخرى بالعقوبات والتهديدات.
طمس الرواية الفلسطينية
ما يحدث اليوم هو أن ذكرى النكبة لم تعد حدثاً يخص الفلسطينيين وحدهم، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس عمق التصدّعات داخل المجتمع الإسرائيلي. فمحاولة طمس الرواية الفلسطينية عبر القمع، لن تؤدي إلا إلى تعزيز حضورها، لا محوها. وكل خطوة قمعية جديدة تساهم في كشف هشاشة الرواية الإسرائيلية الأحادية، وتُحرّك الغضب داخل الجامعات والشارع معاً.
وفي النهاية، يمكن القول إن إسرائيل، بسياساتها الداخلية والخارجية، تدخل مرحلة جديدة من الصدام بين واقع الاحتلال ورغبة بعض مكوّناتها المجتمعية في الحفاظ على صورة الدولة الديمقراطية. لكن في ظل وجود وزراء كيوآف كيش، يبدو أن الدولة اختارت بوعي أن تسير نحو قمع الداخل بالتوازي مع سحق الخارج، في معادلة لا يمكن لها أن تدوم طويلاً دون أن تنفجر من داخلها.