بعد أسابيع من التصعيد المتبادل، والغارات المكثفة التي طالت العمق الإيراني والإسرائيلي على السواء، بدأ منحنى العمليات العسكرية ينحدر تدريجيًا، في مشهد أعاد إلى الأذهان سيناريوهات الحروب المؤقتة التي تُدار بنمط “الضربات المضبوطة”، قبل أن يُعاد رسم حدود الاشتباك. فهل يُشير تراجع حدة القصف إلى فتح قنوات خلفية للوساطة؟ أم أن طهران تبعث برسائل ضمنية إلى الولايات المتحدة، مفادها: “نحن مستعدون للتراجع… لكن بشروط تحفظ الكرامة السياسية”؟
توقف النار دون إعلان: تكتيك التهدئة المؤقتة
خلال الأيام الأخيرة، لاحظ المراقبون تراجعًا لافتًا في وتيرة الهجمات الجوية والصاروخية، لا سيما من الجانب الإيراني، الذي كان قد صعّد لهجته بعد استهداف منشآت نووية في نطنز وأصفهان، وتعرّض عمق أراضيه لهجمات غير مسبوقة. في المقابل، خفّضت إسرائيل كثافة غاراتها على أهداف إيرانية مباشرة أو على حلفائها في المنطقة، وهو ما فسّره البعض على أنه هدنة غير معلنة أو تبريد مقصود للجبهات، بانتظار ما ستسفر عنه الاتصالات الدبلوماسية الجارية خلف الكواليس.
هذا التراجع لا يحمل حتى الآن شكلًا رسميًا لوقف إطلاق النار، لكنه يعكس إدراكًا من الطرفين بأن الاستمرار في هذا المسار التصعيدي قد يؤدي إلى نقطة اللاعودة، وهو ما لا تريده – على ما يبدو – لا إسرائيل الغارقة في أزمتها الداخلية، ولا إيران التي تواجه ضغوطًا اقتصادية ودولية متزايدة.
إيران على حافة المساومة: رسائل مشفّرة إلى واشنطن
بقراءة أعمق، لا يبدو هذا الانخفاض في وتيرة الضربات نابعًا فقط من الإنهاك العسكري، بل ربما هو جزء من استراتيجية إيرانية تهدف إلى إيصال رسالة محددة للولايات المتحدة: “نحن لا نرغب في التورط في مواجهة شاملة… ومستعدون للتراجع مقابل تسوية تحفظ ماء الوجه.”
إيران، التي تدرك أن واشنطن لا تزال الطرف الأكثر تأثيرًا في معادلات المنطقة، تُراهن على إيصال إشارات تهدئة، دون أن تُقدم على تنازلات صريحة. فالصمت العسكري الحالي ترافق مع نبرة إعلامية أكثر تحفظًا، وتراجع في وتيرة التصريحات النارية التي اعتاد الحرس الثوري إطلاقها. كما لم تُسجّل أي هجمات نوعية جديدة على قواعد أميركية في العراق أو سوريا خلال الأيام الماضية، وهي ساحة تقليدية للرد الإيراني غير المباشر.
ومن اللافت أن هذه الديناميكية جاءت متزامنة مع حديث في الدوائر الدبلوماسية عن تحركات وساطة تقودها أطراف خليجية وآسيوية، أبرزها قطر وسلطنة عمان، بالإضافة إلى رسائل غير رسمية نُقلت عبر الأوروبيين، تحث على وقف التصعيد وفتح نوافذ تفاوض جديدة، خاصة في ملف البرنامج النووي الإيراني.
حفظ ماء الوجه: معضلة إيران الدائمة
القيادة الإيرانية، التي بنت سرديتها الثورية على مقاومة “الاستكبار العالمي”، لا تستطيع التراجع بشكل فجّ عن المواجهة دون أن تقدم لجمهورها تبريرًا سياسيًا أو انتصارًا رمزيًا. لذا، فهي تحاول صناعة مخرج ناعم من الأزمة: تراجع ميداني مقابل خطاب إعلامي وطني، ومقايضة غير مباشرة مع واشنطن تمنحها بعض المكاسب – أو على الأقل وقفًا للعقوبات أو تجاهلًا مرحليًا – مقابل الانسحاب التدريجي من مشهد التصعيد.
وهنا تحديدًا تكمن معضلة إيران. فهي لا تريد حربًا، لكنها لا تستطيع أن تبدو وكأنها خضعت تحت الضغط، لا أمام الداخل، ولا أمام حلفائها في “محور المقاومة”. ومن ثم، فإن أفضل سيناريو لها هو هدنة بلا شروط واضحة، يتم تسويقها داخليًا على أنها “نصر تكتيكي”، في حين تُفهم خارجيًا على أنها “إشارات حسن نية” لفتح مسار سياسي جديد.
إسرائيل… وقراءة الموقف بحذر
من جهتها، لا تبدو إسرائيل متسرعة في استغلال تراجع الرد الإيراني. فهي تدرك أن إيران لا تزال تملك أوراقًا مفتوحة على أكثر من جبهة: من اليمن إلى لبنان، مرورًا بالعراق وسوريا. كما أنها لا تملك، في الوقت الراهن، دعمًا دوليًا مفتوحًا لحرب واسعة، خصوصًا في ظل الانتقادات التي تواجهها داخليًا حول التعامل مع الملف الفلسطيني وغزة.
لذا، يُمكن اعتبار التراجع الحالي أشبه بمرحلة جس نبض متبادل، وليس تسوية نهائية. فكل طرف يحاول إعادة التموضع، وتقييم الخسائر، وبناء إستراتيجية جديدة، دون التسرع في قرار الحرب أو التهدئة الكاملة.
بين التصعيد المؤجل والانفتاح الحذر
ما نشهده الآن ليس سلامًا، ولا حتى وقفًا دائمًا لإطلاق النار. إنه أقرب إلى “التنفس المؤقت”، تسمح فيه الأطراف لنفسها بالتفكير، وربما اختبار فرص الدبلوماسية قبل العودة إلى المواجهة. وقد تكون الرسائل المبطنة من طهران إلى واشنطن جزءًا من هذا التكتيك، لكنها مشروطة دائمًا بعدم إهانة الكرامة الإيرانية أو تقويض دورها الإقليمي.
وحتى تتضح ملامح المرحلة المقبلة، سيبقى الشرق الأوسط محكومًا بمعادلة دقيقة: حرب لا أحد يريدها… لكنها لا تزال أقرب مما يُتخيّل.