في خضم التصعيد المتواصل في قطاع غزة، برزت تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب، مساء الأربعاء، لتضيف بُعدًا جديدًا إلى مسار الأزمة المتعددة الأوجه. ترامب، الذي تحدث من البيت الأبيض، كشف أن “معلومات إضافية” بشأن غزة ستُعلَن خلال الأربع والعشرين ساعة المقبلة، مشيرًا إلى وجود “مقترح جديد” يتضمن وقف إطلاق النار والإفراج عن المحتجزين، لكن التفاصيل التي تكشفت لاحقًا كانت أبعد من مجرد ترتيبات إنسانية أو تهدئة مؤقتة.
فقد أفادت وكالة “رويترز” بأن الإدارة الأميركية تدرس مشروعًا طموحًا لتشكيل حكومة مؤقتة في غزة، لا تكون بقيادة فلسطينية أو تحت مظلة دولية تقليدية، بل بإشراف مباشر من مسؤول أميركي، مدعوم بفريق من التكنوقراط الفلسطينيين. ورغم أن الخطة لا تزال في طور النقاش الأولي، فإن مجرّد طرحها يعكس تحولًا جذريًا في رؤية واشنطن لمستقبل القطاع، وربما في تصورها الأوسع للقضية الفلسطينية.
الإدارة المؤقتة: من يشرف؟ ولماذا الآن؟
بحسب تسريبات “رويترز”، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تخوضان حاليًا مشاورات “رفيعة المستوى” حول إمكانية أن تقود واشنطن إدارة انتقالية في غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية. الهدف المعلن لهذه الإدارة هو ضمان استقرار القطاع، نزع سلاحه، وتهيئة الظروف لظهور سلطة فلسطينية “قادرة على الحكم”.
لكن في العمق، يكشف هذا التصور عن إرادة أميركية لملء الفراغ السياسي المتوقع بعد إزاحة حماس – وهو السيناريو الذي يبدو أن إسرائيل تعمل عليه عسكريًا – من دون العودة إلى سلطة رام الله التي ترى فيها واشنطن شريكًا ضعيفًا وغير قادر على تحمل مسؤوليات ما بعد الحرب.
إسناد المهمة إلى مسؤول أميركي يعكس غياب ثقة واشنطن بإمكانية إنتاج إدارة محلية مستقرة بسرعة، ويطرح أسئلة جدية حول السيادة الفلسطينية، وحدود الدور الأميركي في الشأن الداخلي الفلسطيني.
فلسطينيون بلا سلطة ولا قرار؟
المقترح الأميركي يتضمن إشراك تكنوقراط فلسطينيين في إدارة القطاع، وهو ما يُفهم منه محاولة لفصل الإدارة اليومية عن الانتماءات السياسية التي طبعت الحياة في غزة منذ سيطرة حماس عام 2007. لكنّ هذا الطرح لا يمكن فصله عن إرث “الوصاية الدولية” التي غالبًا ما تُفرض على مناطق النزاع تحت مسمى “المرحلة الانتقالية”.
إدارة من هذا النوع، إن تمّ تنفيذها، ستكون في الحقيقة سلطة أجنبية فوق الأرض الفلسطينية، حتى وإن زُيّنت بوجود عناصر فلسطينية ذات طابع تكنوقراطي. وقد تكون هذه الخطوة مقدّمة لتغييب الإرادة السياسية الفلسطينية بحجة “الفراغ المؤسساتي”، وهو ما سيُدخل القضية الفلسطينية في طور جديد من الوصاية المباشرة، على نحو يشبه مشاريع “الانتداب” في النصف الأول من القرن العشرين.
المخاطر السياسية: من الرابح ومن الخاسر؟
إذا نجحت واشنطن في فرض هذا النموذج، فإن أول الخاسرين سيكون الفاعلون الفلسطينيون التقليديون، وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية التي ستجد نفسها خارج معادلة ما بعد الحرب في غزة، لا بصفتها الشرعية ولا بصفتها التاريخية. كما أن هذه الخطوة قد تُقوّض فرص المصالحة الفلسطينية مستقبلاً، إذ ستخلق واقعًا إداريًا جديدًا لا يعترف بشرعية الفصائل الموجودة ولا حتى بتفاهمات “ما بعد أوسلو”.
في المقابل، فإن إسرائيل قد تكون الرابح التكتيكي الأكبر، إذ يُتاح لها عبر هذه الإدارة التخلص من عبء الاحتلال المباشر للقطاع، دون أن تضطر للتعامل مع حماس أو فتح، ودون أن تقدم تنازلات سياسية أو سيادية في ملف الدولة الفلسطينية.
أما دول الإقليم، خصوصًا مصر والأردن وقطر، فقد تجد نفسها خارج حلبة التأثير، إذ تحصر واشنطن العملية في إطار ثنائي أميركي-إسرائيلي، بما يهمّش الدور العربي المعتاد في قضايا الوساطة وإعادة الإعمار.
ما الذي ينتظر غزة؟
خطة ترامب ـ أو بالأحرى المقاربة الأميركية الجديدة ـ تمثّل، إن طُبقت، تحوّلًا استراتيجيًا في شكل التعاطي مع غزة، من منطقة صراع بين الاحتلال والفصائل، إلى منطقة إدارة انتقالية بإشراف قوة أجنبية. هذا النموذج قد ينجح أمنيًا في تهدئة الجبهة الجنوبية لإسرائيل، لكنه سياسيًا قد يعمّق الانقسام، ويُفرغ المشروع الوطني الفلسطيني من مضمونه التاريخي، عبر فرض أمر واقع مؤسسي على الأرض لا يشبه أي صيغة سابقة.