في تحوّل لافت بعد أكثر من عقد على القطيعة السياسية والاقتصادية بين دمشق وأنقرة، أعلنت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية عن توقيع مذكرة تفاهم مع الجانب التركي، لإعادة تفعيل حركة النقل الطرقي “الترانزيت” بين البلدين، وهي خطوة من شأنها، بحسب التصريحات الرسمية، أن تُعيد لسوريا مكانتها كممر تجاري إقليمي، وتفتح آفاقاً جديدة لحركة البضائع عبر المنطقة.
مدير العلاقات في الهيئة، مازن علوش، قال عبر منصة “إكس” إن هذه المذكرة تمثل “خطوة مهمة على طريق استعادة دور سوريا كممر محوري بين آسيا وأوروبا”، في إشارة إلى البعد الجغرافي واللوجستي الذي كانت دمشق تروّج له قبل عام 2011 كمركز ترانزيت يربط الخليج بتركيا وأوروبا.
ورغم الطابع الاقتصادي الصريح للاتفاق، فإن سياقه وتوقيته يطرحان علامات استفهام عديدة حول خلفياته وأبعاده، خاصة أنه يأتي في ظل تصاعد التعقيدات الجيوسياسية، ومحاولات إقليمية لإعادة تطبيع العلاقات مع دمشق ضمن شروط معلنة وأخرى ضمنية.
بين الانفتاح التجاري والمصالح المتبادلة
الاتفاق، وفق ما أعلنه الجانب السوري، يتضمن تعاوناً لوجستياً وتنظيمياً، يسعى إلى ضمان انسيابية حركة السلع وتسهيل مرورها، بعد سنوات من توقف التبادل الرسمي عبر المعابر. لكن مراقبين يرون أن إعادة الترانزيت قد لا تكون مجرد خطوة تجارية بحتة، بل تحمل دلالات سياسية ضمنية ترتبط بالتحولات في المواقف الإقليمية، وبمحاولات تركيا إعادة ضبط علاقتها مع الجوار السوري لأسباب اقتصادية وأمنية في آن معاً.
فعلى الجانب التركي، تعاني أنقرة من تحديات اقتصادية ضاغطة دفعت بها إلى مراجعة سياساتها مع عدة دول في المنطقة، ومنها سوريا. أما دمشق، فهي تبحث عن أي نافذة لإعادة تنشيط اقتصادها المتآكل، وتوفير مصادر جديدة للإيرادات، بعد سنوات من العزلة والعقوبات، وهو ما يجعل هذه المذكرة أقرب إلى “تقاطع ضرورات” من كونها ثمرة تفاهم استراتيجي طويل الأمد.
جدلية الشفافية والمخاوف من التطبيع الصامت
اللافت أن الإعلان عن المذكرة جاء من الطرف السوري فقط، دون تصريحات مقابلة من الجانب التركي، ما يعزز الشكوك حول طبيعة هذه التفاهمات وما إذا كانت جزءاً من قناة خلفية للتواصل أم مبادرة أحادية تسعى دمشق من خلالها إلى اختبار ردود الأفعال.
كما أن تأكيد المسؤول السوري على أن الاتفاق سيتبعه “تقديم تسهيلات لعبور بعض شرائح المسافرين” الذين كان يُثار الجدل حولهم في وسائل التواصل الاجتماعي، يفتح الباب أمام تأويلات واسعة، خاصة في ظل الجدل المتجدد حول ملف اللاجئين السوريين في تركيا، وعودة بعضهم عبر معابر غير رسمية أو بترتيبات خاصة.
هذه الإشارة إلى المسافرين، دون تحديد صريح، قد تعني أن الاتفاق يتجاوز الجانب التجاري، ليشمل ترتيبات إنسانية أو سياسية لا تزال قيد الإعداد، وهو ما يعكس حالة من الضبابية في إدارة هذا الملف شديد الحساسية لدى الرأي العام في البلدين.
استعادة الدور الاقتصادي أم استثمار في الفراغ؟
سوريا، التي كانت لعقود تمثل عقدة وصل بين الخليج وتركيا وأوروبا، فقدت الكثير من هذه المكانة خلال الحرب، مع تبدّل خريطة الطرق والمعابر، وتحوّل الاهتمام الإقليمي إلى مسارات بديلة أكثر أماناً واستقراراً. لذا، فإن استعادة هذا الدور لن تكون ممكنة بمجرد توقيع مذكرة، بل تحتاج إلى بنية تحتية محدثة، وثقة إقليمية ودولية لم تُستعد بعد، فضلاً عن مناخ سياسي أكثر تماسكاً.
الرهان على البُعد الجغرافي وحده قد لا يكفي، ما لم ترافقه خطوات جدّية لتأمين المعابر، وضمان الشفافية في إدارة حركة النقل، بعيداً عن النفوذ العسكري والمليشياوي الذي يسيطر على العديد من المناطق الحدودية. كما أن التحديات لا تقتصر على النقل، بل تشمل نظام الجمارك، وطبيعة البضائع المسموح بمرورها، ومدى استعداد الأطراف الأخرى للانخراط في هذا المسار.
ترانزيت المصالح… إلى أين؟
عودة الترانزيت بين سوريا وتركيا لا يمكن فصلها عن المشهد الإقليمي الأوسع، حيث تتداخل الحسابات الاقتصادية مع ضرورات أمنية، وتُختبر المبادرات السياسية على إيقاع الحرب المستمرة في شمال سوريا، والتي لا تزال تشهد اشتباكات واصطفافات متغيرة.
وإذا ما ثبت أن هذه المذكرة جزء من مسار “تطبيع اقتصادي صامت”، فإنها ستكون اختباراً لقدرة دمشق وأنقرة على الفصل بين السياسة والاقتصاد، في لحظة تبدو فيها المصالح أكثر مرونة من المبادئ، والخطوط الحمراء أكثر ضبابية مما كانت عليه قبل سنوات.
هل تحمل هذه الخطوة مقدمة لتحولات أوسع؟ أم أنها مجرد ترتيبات مصلحية مؤقتة تحت وطأة الأزمة؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها، بينما تبقى الإجابة مرهونة بتطورات الأيام القادمة، ومدى استعداد الطرفين للانتقال من المصالح العابرة إلى تفاهمات مستدامة.