تشهد الساحة الإقليمية تطورات لافتة مع تزايد الحديث عن دور تركيا في مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة. وبينما اضطرت أنقرة إلى نفي التقارير الإسرائيلية التي اتهمتها بممارسة ضغوط على قيادة حماس لدفعها نحو تقديم تنازلات، تكشف قراءة المشهد الإقليمي عن سعي تركي محسوب لتعزيز النفوذ عبر تبني دور الوسيط النشط في القضايا الساخنة.
النفي الرسمي الذي عبّر عنه المتحدث باسم الخارجية التركية أونجو كتشالي، لم يفلح في تبديد انطباع متزايد بين المراقبين بأن تركيا تعتمد البراغماتية في مقاربتها لملفات المنطقة. الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي طالما طمح إلى تثبيت موقع أنقرة كقوة إقليمية مركزية، يبدو اليوم أكثر انخراطًا في الملفات المتفجرة، وعلى رأسها غزة وسوريا، متخليًا عن الحساسيات التقليدية لصالح تحقيق مكاسب استراتيجية أوسع.
الجهد التركي مع حماس لا يمكن فصله عن الطموحات الأوسع للرئيس التركي، الذي يسعى إلى إعادة رسم خريطة النفوذ لصالح بلاده عبر الجمع بين استخدام القنوات السياسية وتطويع التحالفات المتعددة مع أطراف متضادة. وبحسب تقييمات العديد من المراقبين، فإن الضغط التركي المحتمل على حماس لتقديم تنازلات في المفاوضات مع إسرائيل يُفهم كجزء من مسعى أوسع لتحسين صورة تركيا أمام الإدارة الأميركية، لاسيما في ظل سياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب التي فتحت المجال أمام صفقات سياسية على حساب قضايا كانت تعد شديدة الحساسية في الماضي.
في هذا السياق، بدت حماس مجبرة على إظهار بعض المرونة في مفاوضات وقف إطلاق النار، حيث حرصت على تقديم التنازلات المطلوبة عبر قناة أنقرة، لكنها حاولت أن تصوغ ذلك ضمن رواية داخلية باعتباره خيارًا ذاتيًا وليس نتيجة لضغوط خارجية. غير أن تسريب إسرائيل لهذه المعلومات أحرج الحركة أمام أنصارها ومقاتليها، بل وأمام الوسطاء الآخرين، خاصة قطر ومصر، اللتين لطالما لعبتا دورًا رئيسيًا في ملف التهدئة.
التدخل التركي، رغم محاولات تغليفه بإطار إنساني ورسمي كما ظهر في تصريحات وزير الخارجية هاكان فيدان، ألقى بظلاله على علاقة حماس بقطر، التي تعد أبرز داعمي الحركة سياسيًا وماليًا. إذ قد يؤدي نجاح أنقرة في انتزاع تنازلات حماسية عبر وساطتها إلى خلق حساسيات بين الدوحة وغزة، وهو أمر قد يضع الحركة في موقف لا تُحسد عليه وهي تحاول الموازنة بين الحفاظ على شبكة دعمها التقليدية من جهة، والاستجابة للضغوط التركية المتزايدة من جهة أخرى.
لقاء فيدان مع رئيس مجلس شورى حماس محمد درويش وعدد من أعضاء المكتب السياسي، والذي تطرق إلى الأوضاع الإنسانية المتدهورة في قطاع غزة ومفاوضات التهدئة، يشير بوضوح إلى أن أنقرة باتت تطمح لأن تكون الطرف الرئيسي الذي تتم عبره إدارة خطوط التواصل بين حماس وإسرائيل. وإذا ما نجحت في تثبيت هذا الدور، فإن تركيا ستضيف إلى رصيدها الإقليمي ورقة تفاوضية جديدة تستخدمها سواء في علاقتها مع واشنطن أو في منافستها الإقليمية مع قوى أخرى.
في المحصلة، يشي التورط التركي المتزايد في هذا الملف بحقيقة أن السياسة الخارجية التركية باتت تدار بمرونة عالية، دون الالتزام الثابت بحلفاء الأمس، بما يخدم طموحات أردوغان لتكريس موقع بلاده قوة صاعدة في منطقة تتغير معالمها بسرعة.