أطلقت السلطات التركية موجة رابعة من الاعتقالات، في وقت يشتد فيه الجدل السياسي حول مبادرة الرئيس رجب طيب إردوغان للدعوة إلى إعداد دستور جديد للبلاد. الحملة الأخيرة تأتي لتعيد التوتر إلى واجهة المشهد السياسي، وسط اتهامات متبادلة بين المعارضة والسلطة بشأن نوايا هذه الخطوة وتوقيتها.
ويُنظر إلى هذه التحقيقات، التي طالت شخصيات محسوبة على المعارضة وفي مقدمتهم رئيس البلدية المعتقل منذ 19 مارس الماضي، على أنها مزيج من الإجراءات القضائية والتكتيكات السياسية، خصوصًا وأن بلدية إسطنبول تمثل أحد آخر معاقل المعارضة الفعلية في البلاد.
المعارضة ترفض “شراكة دستورية” في ظل القبضة الأمنية
رئيس حزب «الشعب الجمهوري» وزعيم المعارضة أوزغور أوزيل، أعلن مجددًا رفضه الانخراط في عملية إعداد دستور جديد تقودها السلطة، معتبرًا أن شروط المشاركة غائبة. وقال بوضوح: “لا يمكن التفاوض مع من لا يعترفون بالقانون”، مشددًا على ضرورة “النضال ضدهم” بدلًا من الانخراط في ما وصفه بـ”مناورة سياسية تحت غطاء الإصلاح الدستوري”.
حديث أوزيل جاء بعد زيارته لرئيس بلدية إسطنبول المعتقل، حيث وجّه انتقادات حادة لعدم التزام السلطة بقرارات المحكمة الدستورية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، مضيفًا: “ليعيدوا تركيا أولاً إلى حالة طبيعية وقابلة للتفاوض”.
إردوغان يطرح نفسه كقائد لمرحلة ما بعد الرئاسة
الرئيس إردوغان، من جهته، دعا إلى دستور “مدني، ديمقراطي، وليبرالي”، معتبرًا أن البلاد تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يتجاوز النصوص التي وُضعت في سياقات انقلابات عسكرية. لكنه في الوقت نفسه، حرص على التأكيد بأنه “لا يريد الدستور لنفسه”، وأنه لا يعتزم الترشح مجددًا أو البقاء في الحكم بعد انتهاء ولايته.
إلا أن هذه التصريحات لم تمنع الشكوك من التوسع، خاصة في ظل تدخل حليفه الأبرز، دولت بهشلي، زعيم حزب “الحركة القومية”، الذي خرج ببيان صريح يطالب ببقاء إردوغان، مؤكدًا أن “الأمة التركية بحاجة إليه لقيادة قرنها الجديد”، بل واعتبر من غير الجائز أن “يتراجع رئيس يحمل هم الوطن عن مهمته التاريخية”.
الدستور الجديد: بوابة لتجديد الطموحات السياسية؟
التصريحات الصادرة عن بهشلي تعزز الرواية التي تتبناها المعارضة، والتي ترى في الدعوة للدستور الجديد وسيلة لتجاوز القيود الدستورية الحالية، التي تمنع إردوغان من الترشح لولاية ثالثة. فالدستور المعمول به اليوم يحدد عدد الولايات الرئاسية باثنتين فقط، وهو ما يجعل أي محاولة لإعادة ترشحه بحاجة إلى “غطاء قانوني” جديد.
وبالتالي، فإن مشروع الدستور المقترح لا يبدو مجرد خطوة إصلاحية بقدر ما يُنظر إليه كأداة سياسية لإعادة هيكلة قواعد اللعبة في تركيا، خصوصًا مع تآكل شعبية “تحالف الشعب” الحاكم في بعض الدوائر الحضرية الكبرى، وفي ظل ما تعتبره المعارضة “تضييقًا ممنهجًا” على البلديات التي فازت بها في انتخابات 2019.
تركيا بين دستورين وصراعين
ما يحدث في تركيا اليوم ليس مجرد خلاف حول وثيقة قانونية، بل هو صراع أعمق على مستقبل النظام السياسي في البلاد. فالاعتقالات، وإن جرت تحت مظلة القانون، تحمل بعدًا سياسيًا لا يمكن تجاهله، تمامًا كما أن الدعوة إلى إعداد دستور جديد لا يمكن فصلها عن الحسابات الشخصية والتحالفات الانتخابية المقبلة.
في هذا المشهد المعقّد، تبدو تركيا مقبلة على معركة دستورية ليست تقنية، بل سياسية بامتياز، تُعيد طرح سؤال أساسي: من يملك الحق في كتابة قواعد اللعبة، ومن سيضمن ألا تُستخدم هذه القواعد لتكريس واقع لا مجال فيه للتداول السلمي على السلطة؟