منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، تحوّل هذا البلد إلى مسرح لتقاطع وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. وكانت تركيا وإسرائيل من أبرز الفاعلين الذين راقبوا عن كثب ما يجري خلف حدودهم مع سوريا، لكن من زاويتين مختلفتين تمامًا. وعلى مدار أكثر من عقد، اتسمت مواقف الدولتين في هذا الملف بالفتور، بل أحيانًا بالتصادم غير المباشر، بفعل اختلاف أولوياتهما الجيوسياسية، وتوجهاتهما الإقليمية. ومع ذلك، بدأ المشهد يتغير تدريجيًا، وظهرت مؤشرات تفيد بإمكانية قيام تفاهمات براغماتية بين أنقرة وتل أبيب، مدفوعة بالتطورات الإقليمية وحسابات أمنية مشتركة.
العدو المشترك: إيران
من أبرز النقاط التي قد تقرّب بين إسرائيل وتركيا في سوريا هي القلق المشترك من التمدد الإيراني. إسرائيل تعتبر وجود الميليشيات التابعة لإيران، مثل حزب الله والحرس الثوري، تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتقوم منذ سنوات بتنفيذ غارات جوية تستهدف مواقع إيرانية داخل سوريا، ضمن استراتيجية “المعركة بين الحروب”.
أما تركيا، وإن لم تعلن عداءها الصريح لإيران، إلا أنها تنظر بعين الحذر إلى النفوذ الإيراني المتزايد على حدودها، خصوصًا بعد أن غدت طهران حليفا ثقيلاً للنظام السوري، وهي المعادلة التي تقوّض جزءًا من الرؤية التركية لمستقبل سوريا، وتزيد من تعقيدات الوضع الأمني في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة شمال البلاد.
الخشية المتبادلة من تغول إيران، وحرص الطرفين على الحد من نفوذها، قد يشكلان نقطة ارتكاز لتفاهم أمني غير معلن، أو لتبادل معلومات وتنسيق ظرفي، خاصة في مناطق مثل الجنوب السوري أو حتى منطقة البوكمال-دير الزور التي باتت عقدة إيرانية حيوية.
المعادلة الكردية… عقدة لا تنفك
ورغم هذا التقاطع التكتيكي، فإن الخلاف الجوهري يظل قائمًا حول المسألة الكردية. فتركيا ترى في “قوات سوريا الديمقراطية” تهديدًا مباشرًا لوحدتها الترابية، وتشن عمليات عسكرية متكررة لتقويض نفوذها، بينما لا تُخفي إسرائيل دعمها غير المباشر للأكراد، وترى فيهم ورقة ضغط محتملة في مواجهة النفوذ التركي والإيراني والسوري.
هذا التناقض يضع حدودًا واضحة أمام أي تقارب استراتيجي بين أنقرة وتل أبيب، لكن في الوقت نفسه، لا يُغلق الباب أمام تفاهمات تكتيكية، خاصة إذا ارتبطت بملفات أكبر، مثل التفاهمات الأمنية أو توازنات النفوذ في سوريا بعد تراجع النظام.
هل هناك أرضية فعلية للتفاهم في سوريا؟
عمليًا، لا توجد حتى الآن شراكة مباشرة أو تفاهم رسمي بين إسرائيل وتركيا داخل سوريا، لكن المؤشرات الإقليمية تفيد بإمكانية حصول تنسيق غير مباشر، عبر قنوات استخبارية أو دبلوماسية خلف الكواليس. هذا التنسيق قد يكون محدودًا، ويرتكز على أهداف أمنية بحتة، كضمان عدم تصادم العمليات العسكرية، أو التفاهم حول خطوط حمراء معينة، مثل مناطق انتشار القوات الإيرانية أو تحركات “داعش” و”القاعدة”.
كما أن ضعف النظام السوري، وغياب القدرة على بسط سيادة حقيقية على كامل الأراضي، يفتح الباب أمام توازنات جديدة تفرضها القوى المتدخلة، ومنها تركيا وإسرائيل، مما قد يعزز فرص التفاهم الظرفي، خاصة إذا أُرفق بتفاهمات إقليمية أوسع، تشمل أطرافًا مثل روسيا ومصر وربما الولايات المتحدة.
زاوية التحليل الإسرائيلي: قراءة أمنية دقيقة
يرى محللون في معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب (INSS) أن أي تفاهم مع تركيا في سوريا يجب أن يُبنى على قاعدة “المصلحة المؤقتة”، لا التحالف طويل الأمد. بحسب الباحث الإسرائيلي أودي ديكل، فإن إسرائيل تنظر إلى تركيا باعتبارها لاعبًا حيويًا في الشمال السوري، لكنها لا تثق بالكامل في نواياها، خاصة في ما يتعلق بعلاقتها مع حركة “حماس” ودورها في ملف القدس.
ومع ذلك، يعترف ديكل بأن “المواجهة الحقيقية في سوريا لم تعد مع النظام بل مع طهران، وأي طرف قادر على كبح النفوذ الإيراني هو شريك مرحلي، حتى وإن كان خصمًا في ملفات أخرى”. بناءً على هذه الرؤية، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية منفتحة على تفاهمات محدودة مع أنقرة، شرط أن لا تُوظف ضد مصالح إسرائيل في الجولان أو الجنوب السوري.
الرؤية التركية: براغماتية معزولة عن العاطفة
من جهة أنقرة، تميل المراكز المقربة من دائرة صنع القرار، كـ”مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية” (سيتا)، إلى تبني مقاربة واقعية في التعامل مع إسرائيل، خاصة في سوريا. يقول البروفيسور برهان الدين دوران، أحد أبرز وجوه هذا التيار، إن “الوجود الإيراني بات يهدد تركيا أيضًا، ليس فقط بسبب التنافس الإقليمي، بل لأنه يحاصر مشروع تركيا في الشمال السوري ويعزز دعم النظام للوحدات الكردية”.
ويضيف: “إذا كانت إسرائيل تضرب إيران لحماية أمنها، فإن تركيا تتحرك عسكريًا لنفس الغاية. هنا، تتقاطع الأهداف وإن لم تتقاطع القيم أو النوايا”.
تركيا لا تسعى إلى التطبيع الكامل مع إسرائيل في الميدان السوري، لكنها تترك الباب مواربًا أمام ما يسمى بـ”دبلوماسية التنسيق غير العلني”، أي تبادل الرسائل والضمانات عبر طرف ثالث (مثل روسيا أو حتى قطر أحيانًا)، لتفادي التصادم وضمان تنفيذ أجندة كل طرف دون الاصطدام بالأجندة الأخرى.
واقع جديد تُشكّله البراغماتية الإقليمية
الحديث عن “تفاهم تركي-إسرائيلي” في سوريا لا يعني بالضرورة قيام تحالف أو تنسيق معلن، بل يشير إلى واقع جديد تُشكّله البراغماتية الإقليمية، وتفرضه التحولات الجيوسياسية بعد أكثر من عقد على الحرب. وفي ضوء المصالح المتشابكة، والعداوات المشتركة، وسعي كل طرف لتأمين حدوده ونفوذه، قد نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة تُبنى فيها تفاهمات جزئية، تكتيكية، وغير مباشرة، لكنها كافية لضبط الإيقاع الميداني، وتجنب الصدامات غير المحسوبة.